مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
صفحة 1 من اصل 1
مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
"مي زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ"
نوال مصطفى
في هذا الكتاب:
تبحر الكاتبة نوال مصطفى في أعماق قصة حياة الأديبة والمفكرة الفريدة مي زيادة ... وتكشف أسراراً كانت لا تزال - حتى الآن – يكتنفها الغموض وتحيطها مساحة من الضباب! فهل أحبت مي؟ ومن هو صاحب قصة الحب الأسطورية في حياتها؟! هل أصيبت الأديبة - الظاهرة – مي بالجنون في أخريات أيامها أم كانت قصة مختلفة ومؤامرة خسيسة نسجت بذكاء لإغتيالها معنوياً ثم مادياً؟
لقد كانت مي زيادة صاحبة أشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. وكان صالونها ملتقى أدباء وعمالقة الفكر في عصرها . وكانت مثقفة من طراز فريد.. تجيد ست لغات وتصل قامتها الأدبية إلى قامات كبار رجال الفكر في عصرها.
وهذا الكتاب إبحار عميق وترجمة صادقة لحياة مفكرة ورائدة تستحق أن تقرأ.
(اختير كتاب: " مي زيادة .. أسطورة الحب والنبوغ " في معرض الكتاب الدولي لعام 2000 كأفضل عمل ثقافي وتلقت نوال مصطفى هذا التكريم المشرف من الرئيس حسني مبارك في الإحتفال الذي يحضره كتاب ومفكرو مصر في بداية المعرض.)
إهداء......
إلى إنسانة أحببتها .. دون أن أراها ..!
إلى : مي ...
نوال مصطفى
تقديم
( مى زيادة ) شخصية فريدة في الأدب العربي . ربما كانت هي وأندريه شديد أعظم أديبتين .. ومى تكتب بالعربية وأندريه شديد تكتب روايات ومسرحيات وشعراً بالفرنسية. ومن الصعب أن تنظر إلى ( مى) أو تقترب منها دون أن يلسعك عذابها وتوجعك أحزانها وتشفق عليها.
فقد أحاطها وحاط بها أعلام الفكر والسياسة والأدب في زمانها. فكانت حيرتها : فكلهم يحبونها ويصارحونها بذلك . وهي لا تحب واحد منهم .. أو تدعي ذلك . فقد كان قلبها في مكان آخر . ولم تشأ أن تعترف . وقد ألقى بها الصراع العنيف في مستشفى الأمراض العقلية في بيروت. وإن كان رأيي أنها ولدت في مستشفى الأمراض العقلية فليس صالونها الأدبي الذي فتحته في سنة 1913 إلا إحدى غرف التعذيب في الأساطير الإغريقية القديمة..
وبعد أن نقرأ حياة ( مى) وأبعادها وأعماقها وأوجاعها يمكنك أن تتجه إلى ( مى) ذاتها .. مرآتها .. فتقرأ بقلمها وألمها .. ففي الحالتين سوف تجد ما يثيرك ويشغلك. فهذه الفتاة اكتوت مرتين بالنار : نار العزلة والانطواء والحرمان , ومرة ثانية بوهج أعظم المفكرين والشعراء في حياتها.. وقد واجهت كل هؤلاء وحدها وإنفردت بهم .. ثم إنفردت بنفسها تبكي حظها وموهبتها حتى إنهارت في النهاية وعادت إلى مصر وقد شابت وتحطمت وصارت رماداً للنجم الساطع : ( مى زيادة) الفلسطينية السورية اللبنانية المصرية , وحيدة الموهبة فريدة العذاب في لوحة حب وإعجاب وصدق بريشة نوال مصطفى!
بقلم : أنيس منصور
قبل أن تقرأ..
لماذا هذا الكتاب عن مي زيادة؟
تردد هذا السؤال داخلي أكثر من مرة , وفي أكثر من مرحلة من مراحل إنجاز هذا العمل.
لماذا أكتب عن مى الآن .. وبعد حوالي ستين عاماً على رحيلها عن دنيانا؟! لماذا أكتب عن مى بعد كل ما كتبته هي عن نفسها وكل ما كتبه الآخرون عنها ؟! وهل قصة مى زيادة في حاجة إلى من يرويها بعد أن اعتلت مكان القمة في الأدب العربي المعاصر .. وملأت بنبوغها سماء الفكر والثقافة طوال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي؟! هل هي في حاجة لمن يكتب عنها؟!
...
تراءت أمامي جملة موجعة كتبتها مى بخط يدها قبل الرحيل:
أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني!
إذن لا مفر!
سأكتب قصتك يا مي ؛.. وستقرؤها الأجيال التي لم تقرأ لك .. ولم تستمع إلى محاضراتك وخطبك وأحاديثك . سأكتب قصتك وأروي الحقيقة الحزينة ليعرفها الذين اختلطت ملامح صورتك في عيونهم وطالها الضباب.. بعد كل ما قيل عن نهايتك المأساوية.
سأكتب قصتك كما عشتها في كل ما خطته ريشتك.. في كل ما سكبه قلبك على الورق من آلام ووجع , وترجمه إحساسك وأناتك وعذابك المكتوم.. المكتوب!
***
وبدأت الرحلة الصعبة للإبحار داخل ذلك الزمن الجميل . زمن كان للفكر فيه هيبة.. وللأدب والثقافة إحترام وإجلال . وكان المبدعون هم صفوة المجتمع.. وليسوا رجال الأعمال! زمن كان الحدث الثقافي لا يقل في أهميته عن الحدث السياسي. والمعارك الأدبية تجد من القراء مالا تجده المعارك السياسية.
زمن مى .. والعقاد .. وطه حسين .. وجبران خليل جبران .. وأحمد شوقي .. وأحمد لطفي السيد .. ومصطفى صادق الرافعي .. وإسماعيل صبري .. وحافظ ابراهيم .. وخليل مطران.
زمن الإبداع والفكر والثقافة حينما ملأت أنواره نهايات القرن التاسع وبدايات القرن العشرين. زمن ارتفعت فيه هامات العبقريات المصرية في كل المجالات : الأدب .. الموسيقى .. الغناء .. الشعر .. الطب .. الهندسة .. زمن الابداع الكلي .. فالابداع لا يتجزأ .. وشعاعه يمتد ويسري في شرايين المجتمع.
وزمن مى هو ذلك الزمن الجميل .. وكانت هي زهرة هذا الزمان .. والمرأة الوحيدة التي تألقت وتفردت وسط باقة من العمالقة الرجال في عصر لم يكن مسموحا للمرأة بأن تخرج للحياة العامة. ولم يكن متاحاً لها أن تلتقى بالرجال في ندوات ثقافية أو ملتقيات أدبية.
كانت مى ظاهرة أدبية.. ثقافية .. أنثوية .. إنسانية! هكذا أراها .
ظاهرة أدبية.. لأنها كتبت بالفرنسية .. وترجمت عن الألمانية.. وعلمت نفسها اللغة العربية فقرأت القرآن والشريعة – رغم أنها مسيحية – وكتبت العربية بلغة هي مزيج فريد من كل اللغات التي أتقنتها وقرأت وكتبت بها.. ونستطيع أن نطلق عليها لغة مى أو مفردات وقاموس مى الخاص . فلأسلوبها هذه النكهة الخاصة جدا التي لا تجدها إلا في سطورها وصورها التعبيرية ومفرداتها.. ووصفها الدقيق للمشاعر الإنسانية التي تتميز به الآداب الأوربية.
وهي ظاهرة ثقافية .. لأن ثقافتها انفتحت على عدة لغات فقرأت بالفرنسية والألمانية والإيطالية والعربية .. وتنوعت قراءاتها في فروع الثقافة المختلفة : فلسفة .. أدب .. شعر .. فن تشكيلي .. موسيقى .. تراث .. آثار .. قرأت مى في كل هذا .. وبكل اللغات..!
وهي ظاهرة أنثوية .. لأنها صنعت من نفسها نموذجاً غير مسبوق بين نساء عصرها وحتى في الأجيال التي تلت جيلها . فقد كسرت حاجز التمييز بين الرجل المبدع والمرأة المبدعة.. التقت بمفكري عصرها ورواده من الرجال وحاورتهم وناقشتهم في كل القضايا الأدبية والفكرية بندية ومقدرة عالية. وذلك في صالونها الشهير الذي كان منارة إشعاع وثقافة في المجتمع المصري في ذلك الوقت.
وهي ظاهرة إنسانية .. لأن مى كما قالت عن نفسها تمثل النموذج " الأيدياليزم " في الحياة .. أي المثالي المفرط في افتراض حسن نوايا البشر . وهي ظاهرة إنسانية أيضاً لأن نشأتها الدينية المتزمتة في مدارس الراهبات أورثتها التزاماً دينياً أخلاقياً صارماً .. فلم تعرف تحرر العواطف كما عرفت تحرر الفكر والإبداع . ولم ير هذين الخطين بتواز داخلها . بل كثيراً ما اصطدما وتناقضا .. وتصارعا!
وهي ظاهرة إنسانية كذلك.. لأنها لم تعش حياة كاملة أبداً بل عاشت دائماً نصف حياة ! خافت من الحب.. وخافت أن يجرها إلى الخطيئة .. وفي نفس الوقت لم تجد القلب الحقيقي الذي يحتضن مخاوفها ويضمها بصدق .. وكان ذلك سبب كارثة حياتها.
وكان قدرها أن تصاحب الوحدة منذ طفولتها المبكرة .. ثم في نهايات أيامها المأساوية . وبينهما عاشت سنوات المجد والشهرة والتألق والنجاح .. سنوات عاشت فيها تحت الأضواء والناس من حولها . ورغم كل هذا كانت تعيش وحدة من نوع آخر .. وفراغ نفسي وعاطفي وروحي شديد القسوة.
***
لهذا أكتب عن مى .. أكتب قصتها ليس فقط من واقع ما قرأت لها وعنها .. ولكن من داخل كاتبة . امرأة تدرك معنى أن تكتب امرأة وأن تخرج عن الإطار المألوف والسائد والعادي! وفي مجتمع يسوده الرجال.. وتعرف كم تتضاعف معاناة هذه الكاتبة إذا كانت من الطراز " الأيدياليزم" الذي كانته مى!!
ولهذا كان هذا الكتاب.......
***
اخترت أن أبدأ فصول الكتاب بطفولة مى .. تلك الفترة التي أثرت على كل حياتها فيما بعد .. حيث ألحقها والدها إلياس زيادة الفلسطيني الجنسية بمدارس الراهبات الداخلية .. بعيداً عن دفء الوطن وحضن الأسرة . ولا أعرف لماذا كانت هذه القسوة التي زرعت مشاعر الوحدة والخواء العاطفي في قلب الصغيرة النابغة وهي لا تزال طفلة..!
ولدت مى أو ماري إلياس زيادة وهذا هو اسمها الحقيقي في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 لأب لبناني ماروني وأم فلسطينية أرثوذكسية .. وقضت سنوات عمرها الأولى في مدارس داخلية في لبنان , ثم نزحت مع والدها ووالدتها إلى مصر في عام 1908 .. كان عمرها اثنين وعشرين عاماً .. فتاة في ريعان الشباب .. وظلت في مصر – التي كانت تعتبرها وطنها الأساسي- حتى توفيت في 18 اكتوبر عام 1941 .
ولذلك ظل شعور " اللامنتمية" يلازم هذه الكاتبة الفريدة.. فالأقطار الثلاثة التي تنتمي إليها : لبنان .. فلسطين .. مصر كل منها يفتخر بأنها واحدة من نوابغه .. لكن أحداً من تلك الأوطان لم يعطها ما تستحق من تكريم حتى الآن.
وكثيراً ما عبرت مى بقلمها عن هذه الغصة وتلك المرارة التي تشعر بها نتيجة لهذه الغربة الدائمة وعدم الانتماء . فكتبت في أحد مقالاتها ذات مرة تقول : " أين وطني"؟! ولدت في بلد , وأبي من بلد , وأمي من بلد , وسكني في بلد , وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد . فلأي هذه البلدان أنتمي , وعن أي هذه البلدان أدافع؟!
أما الفصل الثاني .. فيروى قصة قدومها إلى مصر مع والدها , والاستقرار فيها , وبداية التفاف كبار رجال الفكر حولها كظاهرة فريدة في الأدب العربي. ثم التقائها بأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد الذي احتضن نبوغها , وكان له الفضل في إقناعها بالكتابة باللغة العربية ودراسة الأدب العربي . وأهدى إليها القرآن الكريم ومجموعة من كتب الأدب لتبدأ مشوارها مع اللغة العربية قراءة وكتابة.
وساعدت مى التي كانت تُدرس اللغة الفرنسية لبنات صاحب جريدة " المحروسة" في بداية سنوات حياتها في مصر في تدعيم الثقة بين والدها وصاحب المحروسة.. وبعد فترة بسيطة تركها صاحب الجريدة لوالد مى إلياس زيادة ليكون صاحبها ورئيس تحريرها.
وهكذا بدأت عملها الصحفي في جريدة المحروسة من خلال باب ثابت كانت تكتبه تحت عنوان " يوميات فتاة" .
وفي الفصل الثالث .. تفاصيل ما كان يدور في صالون مي أشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. وكيف وصف رواد الفكر والأدب والفن هذا الصالون.
الفصل الرابع.. نقرأ عن مشاهير الأدباء والشعراء الذين أحبوا مى.. وكيف أحبها كل منهم وعبر عن هذا الحب ومنهم : محمود عباس العقاد .. مصطفى صادق الرافعي .. إسماعيل صبري .. أحمد لطفي السيد .. أحمد شوقي .. وآخرون.
الفصل الخامس.. يرصد ويسجل موقف هؤلاء الرجال الذين أحبوها " لكنهم لم ينصفوها" . هؤلاء الذين انبهروا بسحرها الخاص .. ونسوا الإنسانة . والمبدعة فساهموا في إطفاء الشمعة التي كانت.
أما الفصل السادس .. فيروي تفاصيل قصة الحب الغريبة .. العجيبة التي لم يعشها في هذا الكون ربما إلا مى .. وجبران! فقد عاشا لمدة تسعة عشر عاماً من الحب والعذاب .. الاشتياق والحرمان .. اللقاء والفراق .. فقط على الورق!!
الفصل السابع .. يتحدث عن بداية المؤامرة التي وقعت في شباكها .. وكانت السبب في مأساتها .. والفصل الثامن يروي الأيام الأخيرة التي عاشتها في بؤس ثقيل .. وعزلة تامة .. وانسحاب من الحياة في صورة رفض لأي طعام أو شراب .. واستسلام كامل للموت!
والفصل التاسع .. يتضمن أهم ما كتبته مى من مؤلفات وكتب ومقالات .. ويحتوي على مقتطفات متنوعة مما كتبته.
كلمة أخيرة.. أود أن أقولها في حق هذه الكاتبة الفريدة . إن مى زيادة التي كانت مشحونة بحلم التنوير والتطوير ومأخوذة بالمعرفة. ومزودة بكنوز من تراثنا ومن الآداب العالمية في آن معاً .. نظلمها إذا أطلقنا عليها " عروس الأدب النسائي" كما وصفوها في زمانها . فلقد كانت مى مفكرة من طراز فريد يندر أن نجد مثيله بين الرجال!
والآن .. إليكم قصة مى . كما رأيتها بعين قلبي..!
نوال مصطفى
القاهرة – 10 ابريل 2000
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل الأول
طفولة مي
الليلة ترحل آخر الفتيات عن مدرسة الدير .. مدرسة عينطورة للبنات ببلدة شحتول في لبنان ..
الليلة ستقضي " ماري " ليلتها وحيدة .. سجينة هذه الجدران المتهجمة . ستقضي الفتاة الصغيرة ذات الأربعة عشر ربيعاً ليلة العيد حزينة .. بعيدة عن بيت أسرتها البعيد في مدينة " الناصرة " بفلسطين .
سوف تسافر ماري إلياس زيادة بخيالها ونبضات قلبها إلى حيث الدفء الساكن هناك في بيتها مع أمها التي تحبها كثيراً ووالدها الذي يغمرها بشلال من حنان .
لكن سرعان ما يصطدم الخيال بالواقع . وتجد ماري نفسها وسط ثليج الوحدة خاصة بعد رحيل آخر صديقاتها المقربات لقضاء أجازة العيد مع الأهل . وتهرب ماري من وحدتها وآلامها مع تسلل الصباح وشروق الشمس .. تلقى بنفسها وسط الحدائق الواسعة المحيطة بالدير .. مع أصدقائها الذين لا تمل صحبتهم أبداً هوجو , لامارتين , شاتوبريان ..
في هذا الوقت فقط ينبعث الدفء من جديد في أوصالها .. وتسري حرارة الحياة في وجدانها .. وعندما تعود إلى غرفتها بمدرسة الدير تكون قد امتلأت بمشاعر هؤلاء الأصدقاء , وغاصت في أفكارهم وأحلامهم . فتجلس .. وتكتب .
هكذا كانت طفولة ماري التي اختارت فيما بعد الحرف الأول والحرف الأخير من اسمها فقط ليكون اسمها الأدبي : " مي " طفولة قاسية.. في مدارس داخلية للراهبات . الأولى كانت مدرسة اليوسفيات في " الناصرة " حيث ولدت بفلسطين – وطن الأم – وكانت في السادسة من عمرها في ذلك الوقت . وبعدما أنهت دراستها الابتدائية في تلك المدرسة , ألحقها والدها بمدرسة الزيارة في " عينطورة " بلبنان حيث وطنه هو .. وهناك أحست الصغيرة بانتزاع الدفء والأمان لأول مرة .. وعاشت الوحدة والقلق اللذين لازماها حتى آخر العمر.
في مدرسة " الزيارة " أدهشت الفتاة الصغيرة مدرساتها بتفوقها في دروسها وحبها الشديد للشعر وقدرتها على دراسة اللغات , فقد أتقنت خمس لغات هي العربية , والفرنسية , والإنجليزية , والإيطالية , والألمانية .
ويبدو أن فترة الطفولة التي عاشتها ماري زيادة بين بيروت وفلسطين سيمتد تأثيرها على حياتها كلها بعد ذلك .. وستحفر بصماتها العميقة على تكوينها النفسي والإنساني بصفة خاصة.
فقد عاشت ماري سنوات الطفولة وبداية الشباب في مدارس الراهبات المعروفة بالشدة والحزم الذي يصل إلى حد القسوة أحياناً ..
عاشت معظم سنوات طفولتها وحيدة بعيداً عن أمها الفلسطينية نزهة المعمر , وأبيها اللبناني إلياس زيادة المدرس البسيط .. ولأنها طفلة موهوبة , خُلِقت تحمل صفات النبوغ والتفرد فقد حولت أحزانها وحرمانها منذ طفولتها المبكرة إلى غوص عميق في دروب الفكر والثقافة ورغبة غير محدودة في الاكتشاف والمعرفة.
تعلمت منذ البداية كيف تقهر مشاعرها , وتحاصرها .. وأمسكت بقوة لجام قلبها حتى لا يفلت من بين يديها . وينطلق صارخاً بآهاته وأناته .. بأحلامه وأوجاعه .
وفي الوقت الذي فعلت فيه ذلك بقلبها . أطلقت لعقلها كل الحرية لينطلق ويفكر ويحلل ويكتشف ويبحر . وهنا في رأيي مكمن مأساة ماري زيادة .. أو الآنسة مي التي احتلت مكانة لم تحتلها أديبة عربية أخرى في زمانها أو في الأزمنة التي تلته .. وحتى الآن .
الفجوة الرهيبة بين القلب والعقل ! الحصار المخيف .. والإنطلاق غير المحدد للفكر .. المحافظة الشديدة .. مع التمرد والتحرر على كل أنماط الفكر التقليدي . هكذا جمعت مي بين النقيضين .. ومن هذا التناقض الجوهري تولدت كل تناقضاتها الأخرى . وبسبب هذا الصراع الداخلي الرهيب انتهت حياتها المتوهجة بالفكر والنجاح والتألق لتلك النهاية المأساوية الحزينة .
قصتها.. قصة تراجيدية بكل ما تحمله الكلمة . قصة امرأة توهجت كالشمس كظاهرة فريدة في عصرها .. التف حولها كبار مفكري مصر والعالم العربي .. واحترم فكرها ونبوغها الأدباء والشعراء .. ووقع في حبها الكثيرون منهم .. وكان دائماً حباً من طرف واحد ! فقلب مي كان دائماً مغلقاً .. بإحكام في وجه الجميع !!
وكانت مي تعبر أحياناً في كتاباتها عن هذه المشاعر الحائرة فتقول : " ولدت في بلد وأبي من بلد وسكني في بلد وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد فلأي هذه البلاد أنتمي . إنما أريد وطناً لأموت من أجله أو لأحيا به ".
لقد كانت تجيب دائماً عند السؤال عن وطنها فتقول : " أنا فلسطينية .. لبنانية .. مصرية .. سورية " وهي في داخلها لا تعرف لأي البلاد تنتمي حقاً .. وانسحب هذا الشعور بعد ذلك على البشر وعلاقتها بالناس . فرغم الشهرة العظيمة التي حققتها وزحام الرجال من المفكرين والأدباء والمبدعين الغارقين في حبها .. إلا أنها لم تشعر بالانتماء إلى أي واحد منهم .. إلا واحد هو جبران خليل جبران .. الذي أحبته على الورق فقط ! من خلال الرسائل المتبادلة بينها من القاهرة .. وبينه من المهجر حيث كان يعيش في أمريكا !!
لا شك أن سنوات طفولة مي كانت بالغة التأثير في حياتها كلها بعد ذلك .. وربما كانت الجوانب الإيجابية أيضاً خلال تلك الفترة قوية وعميقة .. فقد أجادت مي اللغة الفرنسية إجادة تامة وحفظت الكثير من الأشعار الفرنسية خاصة أشعار الرومانسية مثل : لامارتين وديه موسيه , وتعلمت التمثيل والموسيقى والعزف على البيانو .. كما تعلمت ركوب الخيل ومارسته في وديان وسهول لبنان ..
وقبل أن نترك الحديث عن طفولة مي لا بد أن نذكر أنها فقدت شقيقتها الوحيد في طفولتها ... وكتبت لتعبر عن مشاعرها تجاه هذا الشقيق تقول :
" إلى العينين التي أطبقهما الموت قبل أن ألثمهما .. إلى الابتسامة التي لا أعرف منها إلا خيالاً .. إلى الاسم العذب الذي لا تهمس به شفتاي دون أ، تملأ عيني الدموع .. إلى الطفل الذي رحل إلى خالقه ويتم فيّ عاطفة الحب الأخوي الأخوي , فحرمني من حنو الأخ وقبلته وابتسامته ودمعته .. إلى أخي الوحيد الذي تقاسم الأثير والثرى !
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل الثاني
مي ... في مصر
ما أن انتهت مي من كلمتها في الاحتفال المهيب حتى ضجت القاعة بالتصفيق .. وكادت جدران المكان تهتز من حرارة التأثر وشدة إعجاب الحاضرين بنبوغ وتألق وسحر إلقاء وبلاغة الخطيبة الصغيرة.
كان ذلك في احتفال أقامته الدولة برعاية الخديوي عباس لتكريم الأديب الكبير خليل مطران . وبعث الكاتب المهاجر إلى أمريكا جبران خليل جبران بكلمة ليلقيها أحد الأدباء نيابة عنه في هذه الأمسية الهامة .. والتي أقيمت في الجامعة المصرية في ابريل عام 1913 بمناسبة الإنعام عليه بالوسام المجيدي الثالث ..
قرأت مي كلمة جبران بأسلوب جعل من كل كلمة نبضة تطرق قلوب مستمعيها ومن كل سطر ومضة تلمع في عقول الحاضرين فتحفز عقولهم لتتأمل وتحاور ذلك الفكر الفريد .
***
خرج الحاضرون جميعاً من الاحتفال لا يذكرون إلا اسماً واحداً هو " مي " صاحبة الصوت العذب والإلقاء المعبر عن كل كلمة , والفكر الرصين العميق الذي ظهر بوضوح في تعقيبها على كلمة جبران خليل جبران بعد أن انتهت منها .
ومنذ تلك الليلة في عام 1913 بدأت خيوط الشهرة تنسج حروف هذا الاسم الذي لم يكن معروفاً بهذا الاتساع والانتشار من قبل . وبدأ الجميع يتساءلون عن هذه الأديبة الشابة .. التي تتمتع بجمال الشكل وجمال الروح .. وروعة العقل وعذوبة الصوت معاً!!.
من هي ؟!
ومع هذه الأسئلة الكثيرة تكونت صورة هذه الفتاة .. وعرف الجميع حكايتها.
عرفوا أنها جاءت مع والدها المدرس المغمور إلياس زيادة من لبنان وأمها نزهة معمر وهي فلسطينية الجنسية . جاءوا إلى مصر بحثاً عن فرصة عمل في الصحافة كان يبحث عنها الأب .. ورحل إلى مصر مصطحباً عائلته وراء هذا الأمل .
كان ذلك عام 1908 .. وكانت مي في ذلك الوقت في الثانية والعشرين من عمرها . شابة مليئة بالحيوية والحماس .... تعشق الكتابة والصحافة , تجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة , ثقافتها رفيعة , قرأت لأشهر الكتاب العالميين كما قرأت لابن الفارض والمعري والمتنبي .
وبدأت الصغيرة تبحث عن عمل مناسب لإمكاناتها المتميزة .. تستطيع من خلاله أن تساعد والدها في بداية حياته الجديدة في مصر . وكان والدها في ذلك الوقت قد تعرف على إدريس راغب باشا صاحب جريدة المحروسة .. وعمل معه في الجريدة .. وفي نفس الوقت قامت مي بتدريس اللغة الفرنسية التي تجيدها لابنتي إدريس باشا .
اقتربت مي من عائلة إدريس راغب باشا وتوطدت علاقتها بها من خلال الصداقة العميقة التي نشأت في ذلك الوقت بينها وبين ابنتي إدريس باشا .. وبعد فترة منح الباشا جريدة " المحروسة " لإلياس زيادة .. تقديراً لهذه الصداقة الغالية واعترافاً بفضل مي في تعليم بناته.
وفجأة تبدل حال العائلة ! من الفقر إلى اليسر المادي . كما انتعشت صلات إلياس زيادة وزوجته وابنته وتوطدت بالوسط الثقافي في القاهرة ... وبدأت مي بالكتابة في جريدة المحروسة . واختارت اسم " يوميات فتاة " عنواناً لباب ثابت كانت تحرره في " المحروسة " . كانت تختار الموضوعات الحية التي يتجادل بشأنها الناس وتدفع بآرائها الحكيمة والجرئية في آن معاً . فارتبط بها القراء , وراحوا يبحثون عن كتاباتها التي كانت تمثل فكراً جديداً في مجتمع مغلق خاصة بالنسبة لنساء عصرها .
وكتبت مي ديوان شعر بعنوان "زهرات حلم " باللغة الفرنسية .. وكان هذا الديوان أول إنتاج أدبي لها أصدرته باسم مستعار هو " إيزيس كوبيا " وليس باسم مي . كان ذلك عام 1911 .. أي بعد ثلاث سنوات من إقامتها بمصر .
وبدأت أنظار عمالقة الأدب والفكر في ذلك الوقت تتجه إلى هذه الكاتبة الصغيرة التي أعلنت منذ بداياتها عن موهبة فريدة . تحمس لها أحمد لطفي السيد ويعقوب صروف صاحب مجلتي المقتطف والمقطم , وشجعاها على التزود في دراسة اللغة العربية والخط العربي والقرآن الكريم .
وأطاعت التلميذة الصغيرة الأساتذة الكبار .. فقرأت بدأب , وعكفت على دراسة الفلسفة الإسلامية واللغة العربية والتحقت بالجامعة المصرية الأهلية لمدة ثلاث سنوات من عام 1911 حتى 1914 . وأثناء هذه الفترة كتبت مي في العديد من المجلات المعروفة إلى جانب مجلة " المحروسة " . كتبت في مجلة "المقتطف" و " السياسة الأسبوعية " و " الهلال " و " المرأة الجديدة " وغيرها .
وابتكرت مي باباً جديداً في الصحافة المصرية عندما طلبت منها جريدة السياسة الاسبوعية الكتابة فيها . أطلقت عليه اسم " خلية نحل" . كانت تتلقى أسئلة القراء والقارئات وتصيغها صياغة صحفية سليمة .. ثم تطلب من القراء جميعاً أن يشاركوا في الإجابة عن الأسئلة .. وتتلقى إجابات القراء .. وتختار أفضلها ثم تصيغها وتنشرها.
جذب هذا الكتاب القراء وارتبطوا بها وبالجريدة .. وكانت سعيدة بتحرير هذا الباب لأنه يقربها من أفكار الناس . وأحلامهم وآلامهم . آرائهم واختلافاتهم .وكانت تجد في هذا كله مادة حية غنية وحقيقية استعانت بها في فهم الكثير من أمور الحياة .. واستلهمت بعض الأفكار الجيدة فكتبت عنها في مقالاتها بعد ذلك آراء وتحاليل عميقة .
وفي عام 1922 قدمت جريدة "الاهرام" لها شقة من مبانيها القديمة بشارع علوى تقديراً لظروف معيشتها البسيطة حيث كان دخلها من الكتابة وصحيفة " المحروسة" ليس بالقدر الذي الذي يسمح لها بالسكن بشقة في وسط البلد .
وكتبت مي في الاهرام مقالات هامة .. أحياناً تكتب المقال الافتتاحي للجريدة .. وأحياناً مقالات في صفحة المرأة .
وفي هذه الشقة بدأت " مي" إقامة أول صالون ثقافي أدبي دعت إليه بعد الكلمة التي ألقتها في الجامعة المصرية بالنيابة عن جبران خليل جبران في مناسبة تكريم الشاعر خليل مطران والكلمة البديعة التي عقبت بها على كلمة أديب المهجر جبران.
بعدها.. وعندما لمست تعلق القلوب والعقول بها أعلنت في تلك الليلة دعوتها لجميع الحضور للاجتماع في بيتها كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع . وكانت هذه اللحظة من ليلة 24 إبريل عام 1913 مولداً لصالون مي .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
lor=red]]الفصل الثالث
صالون .. مي
كانت مي فتاة جميلة .. جمالها شرقي يرتدي مسحة من أخيلة الغرب .. وكانت جاذبيتها ليست في جمالها فحسب .. بل في عقلها الذي كان يبهر عمالقة الفكر والأدب في هذا العصر . ومنهم الدكتور طه حسين والمفكر عباس محمود العقاد والكاتب مصطفى صادق الرافعي وخليل مطران وأحمد لطفى السيد وعدلي يكن وغيرهم كثيرون.
كانت في عيونهم جميعاً شعاعاً جميلاً .. يتدفق فكراً وأدباً وثقافة مع لطف في الأخلاق وأسلوب مهذب .. أنيق في الترحيب والاستقبال .. فكان بيتها ملاذاً للجميع لا تحت تأثير مشاعرهم التي تحركت نحوها .. بل أيضاً تحت تأثير هذا الجو العقلي الذي كان من النادر جداً وجوده عند غالبية نساء ذلك الزمان .
كان عصر الحجاب .. حجاب الوجه وحجاب التقاليد الاجتماعية الصارمة خاصة تجاه المرأة وخروجها العام إلى المجتمع . وكانت مي التي نشأت في الاوساط المارونية ذات الثقافة الأوربية مختلفة تماماً عن صورة المرأة الشرقية في هذا الوقت .. فجذبت العقول كما جذبت القلوب .
وكانت مي الفتاة الشابة القادمة من لبنان هي الوحيدة في عصرها التي استطاعت أن تحرر فكرها وحياتها من أسلوب الحياة السائد بين النساء في ذلك الوقت في مصر.
ولكن كيف ولدت فكرة الصالون في خاطر مي ؟
تأثرت مي بتجربة شهيرة في مطلع النهضة الأوربية خاصة في عصر لويس الرابع عشر في فرنسا حيث كان صالون مدام ريكاميه .. وكانت سيدة على جانب كبير من العلم والذكاء جعلت من إحدى غرف بيتها منتدى لتحريك الأفكار وتبادل الرؤى الثقافية والفكرية وعرفت هذه الغرفة بـ " الغرفة الزرقاء" . كما كان هناك صالون آخر شهيراً هو صالون مدام دوستايل .
وتأثرت مي كثيراً بصالون مدام دوستايل من حيث اهتمام مناقشاته وندواته بالتراث العالمي كله , فقد كانت مي تتقن عدة لغات قراءة وكتابة .
لم يكن هذا هو السبب لوحيد الذي دفع بالفكرة إلى رأس مي .. بل جاء الإيحاء من أستاذها أحمد لطفي السيد الذي كان من أهم الذين تأثرت بهم مي , وتتلمذت على أفكارهم وطاعت نصائحهم . والتأثير الأكبر الذي أحدثه أحمد لطفي السيد في حياة مي هو تشجيعها على دراسة اللغة العربية وإتقانها وكذلك قراءة القرآن والفقه الإسلامي , وهذا ما شجعها على الكتابة باللغة العربية بعد أن كانت تكتب فقط باللغات الأجنبية التي تجيدها . وكان أول ديوان لها باسم " زهرات حلم" باللغة الفرنسية.
ويبدأ في مايو 1913 أشهر صالون أدبي شهده القرن العشرون صالون مي .. ليكون ملتقى كبار مفكري وأدباء وفناني مصر وسوريا وكبار الأدباء الأوربيين الزائرين لمصر .
كيف كان شكل صالون مي؟.. ماذا كان يدور في أمسيات الثلاثاء الفريدة ؟ كيف كانت نجمة الأدب والفكر تشرق بذكائها ونبوغها خلال تلك الأمسيات .. وكيف كانت تخلب عقول وقلوب كبار مفكري عصرها ؟ ماذا لو أدرنا عجلة الزمن لنعود إلى الزمن الجميل . ونستمع إلى ضيوف مي من عمالقة الفكر والأدب وكيف وصفوا هذا الصالون الأدبي الفريد..
•يصف الكاتب اللبناني سليم سركيس صالون مي فيقول :
مساء كل ثلاثاء يتحول منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة " المحروسة" إلى منزل فخم في باريس .. وتتحول مي التي لا تزال في العقد الثاني من عمرها إلى مدام دوستايل , أ, ولادة بنت المستكفي , أو وردة اليازجية في شخص ومدارك الآنسة مي , ويتحول مجلسها إلى فرع من سوق عكاظ , وتروج المباحث العلمية والفلسفية والأدبية في مجلس يحضره إسماعيل صبري , وشبلي شميل , وخليل مطران , وأحمد زكي اشا . هؤلاء جميعاً يهزون بأحاديثهم ومناقشاتهم أغصان شجرة ذات ثمر . ويحركون وردة ذات أريج , والآنسة مي بينهم تناقش هذا , وتدافع عن ذاك..
•ويصفها المفكر الكبير محمود عباس العقاد فيقول:
كل ما تتحدث به مي ممتعا كالذي تكتبه بعد روية وتحضير , فقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجلاء , ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث وهي ملكة التوجيه وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثقافة والمقال , فإذا دار الحديث بينهم جعلته مي على سنة المساواة والكرامة وأفسحت المجال للرأي القائل الذي ينقضه أو يهدمه وانتظم هذا برفق ومودة ولباقة ولم يشعر أحد بتوجيه الكلام منها , وكأنها تتوجه من غير موجه , وتنتقل بغير ناقل وتلك غاية البراعة في هذا المقام.
•ويتحدث عميد الأدب العربي طه حسين ن ذكرياته في صالون مي .. فيقول :
كان الذين يختلفون إلى الصالون متفاوتين تفاوتاً شديداً فكان منهم المصريون على تفاوت طبقاتهم ومنازلهم الاجتماعية وعلى تفاوت أعمارهم , وكان منهم السوريون ومنهم الأوربيون على اختلاف شعوبهم وكان منهم الرجال والنساء وكانوا يتحدثون في كل شيء ويتحدثون بلغات مختلفة وبالعربية والفرنسية والانجليزية خاصة .
ولكن كيف وأبن بدأ أهم وأشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. صالون مي ؟
كانت البداية في الحفل الكبير الذي أقيم في بهو الجامعة المصرية لتكريم الشاعر خليل مطران بمناسبة الإنعام عليه بوسام رفيع .. وبعد أن ألقت مي كلمة الكاتب المغترب جبران خليل جبران نيابة عنه . خطفت القلوب واستأثرت على العقول .. وبعد أن عقبت على كلمة جبران . اشتعل حماس الجمهور لهذه الأديبة الشابة .. وصارت منذ تلك اللحظة حديث الناس.
في هذه الليلة دعت مي الحاضرين إلى الصالون الأدبي الجديد الذي قررت أن تقيمه في بيتها مساء كل ثلاثاء . في بيتها بشارع مظلوم وهكذا بدأ صالون مي الذي استمر لفترة طويلة حوالي ربع قرن يجمع عمالقة الفكر والثقافة والسياسة والأدب .. وتدور في أمسياته أعمق وأغنى المناقشات والحوارات .. ويتبارى الكتاب والشعراء والفلاسفة في عرض أفكارهم وثقافاتهم ورؤاهم المختلفة .. وتحول هذا الصالون إلى منبر قوي يدعم تيار الفكر والثقافة الذي كان مزدهراً في ذلك الوقت , ويسهم بدور هام في تحريك الأفكار وشحذها وتفاعلها الايجابي فأثرت الحياة الأدبية في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.
وكان المترددون على ندوتها يتحدثون في شتى الموضوعات الفكرية والأدبية . يتكلمون بالعربية أو بغيرها من اللغات الأجنبية , أما مي فكان حديثها دائما باللغة العربية الفصحى .
ووصف العقاد الأحاديث التي كانت تدور في ندوة مي بقوله : لو جمعت هذه الأحاديث لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة " العقد الفريد " و " مكتبة الأغاني " في الثقافتين الأندلسية والعباسية .
ورأى هؤلاء المفكرون في مي الشخصية الفريدة التي جمعت بين الثقافة الرفيعة والأخلاق الفاضلة فازدادوا إيماناً بضرورة تعليم الفتاة وتشجيعها على الثقافة وصقل الذات بالمعرفة .
وأطلق عليها أدباء ومفكرو عصرها العديد من الألقاب منها : الأديبة .. النابغة .. فريدة العصر .. ملكة دولة الإلهام .. حلية الزمان .. الدرة اليتيمة .. وغيرها من الألقاب التي تعكس قدر الاحترام والإجلال اللذين حظيت بهما مي من كتاب عصرها.
ولكن ورغم كل هذا التوهج واللمعان في سماء الفكر والأدب .. هل كانت أديبتنا النابغة سعيدة ؟ هل أضاءت تلك الشمس المشعة حياتها .. أم أشرقت فقط في حياة الآخرين ؟! واحترقت هي ؟! هذا ما سوف نعرفه في الفصول القادمة ..![/size]
صالون .. مي
كانت مي فتاة جميلة .. جمالها شرقي يرتدي مسحة من أخيلة الغرب .. وكانت جاذبيتها ليست في جمالها فحسب .. بل في عقلها الذي كان يبهر عمالقة الفكر والأدب في هذا العصر . ومنهم الدكتور طه حسين والمفكر عباس محمود العقاد والكاتب مصطفى صادق الرافعي وخليل مطران وأحمد لطفى السيد وعدلي يكن وغيرهم كثيرون.
كانت في عيونهم جميعاً شعاعاً جميلاً .. يتدفق فكراً وأدباً وثقافة مع لطف في الأخلاق وأسلوب مهذب .. أنيق في الترحيب والاستقبال .. فكان بيتها ملاذاً للجميع لا تحت تأثير مشاعرهم التي تحركت نحوها .. بل أيضاً تحت تأثير هذا الجو العقلي الذي كان من النادر جداً وجوده عند غالبية نساء ذلك الزمان .
كان عصر الحجاب .. حجاب الوجه وحجاب التقاليد الاجتماعية الصارمة خاصة تجاه المرأة وخروجها العام إلى المجتمع . وكانت مي التي نشأت في الاوساط المارونية ذات الثقافة الأوربية مختلفة تماماً عن صورة المرأة الشرقية في هذا الوقت .. فجذبت العقول كما جذبت القلوب .
وكانت مي الفتاة الشابة القادمة من لبنان هي الوحيدة في عصرها التي استطاعت أن تحرر فكرها وحياتها من أسلوب الحياة السائد بين النساء في ذلك الوقت في مصر.
ولكن كيف ولدت فكرة الصالون في خاطر مي ؟
تأثرت مي بتجربة شهيرة في مطلع النهضة الأوربية خاصة في عصر لويس الرابع عشر في فرنسا حيث كان صالون مدام ريكاميه .. وكانت سيدة على جانب كبير من العلم والذكاء جعلت من إحدى غرف بيتها منتدى لتحريك الأفكار وتبادل الرؤى الثقافية والفكرية وعرفت هذه الغرفة بـ " الغرفة الزرقاء" . كما كان هناك صالون آخر شهيراً هو صالون مدام دوستايل .
وتأثرت مي كثيراً بصالون مدام دوستايل من حيث اهتمام مناقشاته وندواته بالتراث العالمي كله , فقد كانت مي تتقن عدة لغات قراءة وكتابة .
لم يكن هذا هو السبب لوحيد الذي دفع بالفكرة إلى رأس مي .. بل جاء الإيحاء من أستاذها أحمد لطفي السيد الذي كان من أهم الذين تأثرت بهم مي , وتتلمذت على أفكارهم وطاعت نصائحهم . والتأثير الأكبر الذي أحدثه أحمد لطفي السيد في حياة مي هو تشجيعها على دراسة اللغة العربية وإتقانها وكذلك قراءة القرآن والفقه الإسلامي , وهذا ما شجعها على الكتابة باللغة العربية بعد أن كانت تكتب فقط باللغات الأجنبية التي تجيدها . وكان أول ديوان لها باسم " زهرات حلم" باللغة الفرنسية.
ويبدأ في مايو 1913 أشهر صالون أدبي شهده القرن العشرون صالون مي .. ليكون ملتقى كبار مفكري وأدباء وفناني مصر وسوريا وكبار الأدباء الأوربيين الزائرين لمصر .
كيف كان شكل صالون مي؟.. ماذا كان يدور في أمسيات الثلاثاء الفريدة ؟ كيف كانت نجمة الأدب والفكر تشرق بذكائها ونبوغها خلال تلك الأمسيات .. وكيف كانت تخلب عقول وقلوب كبار مفكري عصرها ؟ ماذا لو أدرنا عجلة الزمن لنعود إلى الزمن الجميل . ونستمع إلى ضيوف مي من عمالقة الفكر والأدب وكيف وصفوا هذا الصالون الأدبي الفريد..
•يصف الكاتب اللبناني سليم سركيس صالون مي فيقول :
مساء كل ثلاثاء يتحول منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة " المحروسة" إلى منزل فخم في باريس .. وتتحول مي التي لا تزال في العقد الثاني من عمرها إلى مدام دوستايل , أ, ولادة بنت المستكفي , أو وردة اليازجية في شخص ومدارك الآنسة مي , ويتحول مجلسها إلى فرع من سوق عكاظ , وتروج المباحث العلمية والفلسفية والأدبية في مجلس يحضره إسماعيل صبري , وشبلي شميل , وخليل مطران , وأحمد زكي اشا . هؤلاء جميعاً يهزون بأحاديثهم ومناقشاتهم أغصان شجرة ذات ثمر . ويحركون وردة ذات أريج , والآنسة مي بينهم تناقش هذا , وتدافع عن ذاك..
•ويصفها المفكر الكبير محمود عباس العقاد فيقول:
كل ما تتحدث به مي ممتعا كالذي تكتبه بعد روية وتحضير , فقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجلاء , ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث وهي ملكة التوجيه وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثقافة والمقال , فإذا دار الحديث بينهم جعلته مي على سنة المساواة والكرامة وأفسحت المجال للرأي القائل الذي ينقضه أو يهدمه وانتظم هذا برفق ومودة ولباقة ولم يشعر أحد بتوجيه الكلام منها , وكأنها تتوجه من غير موجه , وتنتقل بغير ناقل وتلك غاية البراعة في هذا المقام.
•ويتحدث عميد الأدب العربي طه حسين ن ذكرياته في صالون مي .. فيقول :
كان الذين يختلفون إلى الصالون متفاوتين تفاوتاً شديداً فكان منهم المصريون على تفاوت طبقاتهم ومنازلهم الاجتماعية وعلى تفاوت أعمارهم , وكان منهم السوريون ومنهم الأوربيون على اختلاف شعوبهم وكان منهم الرجال والنساء وكانوا يتحدثون في كل شيء ويتحدثون بلغات مختلفة وبالعربية والفرنسية والانجليزية خاصة .
ولكن كيف وأبن بدأ أهم وأشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. صالون مي ؟
كانت البداية في الحفل الكبير الذي أقيم في بهو الجامعة المصرية لتكريم الشاعر خليل مطران بمناسبة الإنعام عليه بوسام رفيع .. وبعد أن ألقت مي كلمة الكاتب المغترب جبران خليل جبران نيابة عنه . خطفت القلوب واستأثرت على العقول .. وبعد أن عقبت على كلمة جبران . اشتعل حماس الجمهور لهذه الأديبة الشابة .. وصارت منذ تلك اللحظة حديث الناس.
في هذه الليلة دعت مي الحاضرين إلى الصالون الأدبي الجديد الذي قررت أن تقيمه في بيتها مساء كل ثلاثاء . في بيتها بشارع مظلوم وهكذا بدأ صالون مي الذي استمر لفترة طويلة حوالي ربع قرن يجمع عمالقة الفكر والثقافة والسياسة والأدب .. وتدور في أمسياته أعمق وأغنى المناقشات والحوارات .. ويتبارى الكتاب والشعراء والفلاسفة في عرض أفكارهم وثقافاتهم ورؤاهم المختلفة .. وتحول هذا الصالون إلى منبر قوي يدعم تيار الفكر والثقافة الذي كان مزدهراً في ذلك الوقت , ويسهم بدور هام في تحريك الأفكار وشحذها وتفاعلها الايجابي فأثرت الحياة الأدبية في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.
وكان المترددون على ندوتها يتحدثون في شتى الموضوعات الفكرية والأدبية . يتكلمون بالعربية أو بغيرها من اللغات الأجنبية , أما مي فكان حديثها دائما باللغة العربية الفصحى .
ووصف العقاد الأحاديث التي كانت تدور في ندوة مي بقوله : لو جمعت هذه الأحاديث لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة " العقد الفريد " و " مكتبة الأغاني " في الثقافتين الأندلسية والعباسية .
ورأى هؤلاء المفكرون في مي الشخصية الفريدة التي جمعت بين الثقافة الرفيعة والأخلاق الفاضلة فازدادوا إيماناً بضرورة تعليم الفتاة وتشجيعها على الثقافة وصقل الذات بالمعرفة .
وأطلق عليها أدباء ومفكرو عصرها العديد من الألقاب منها : الأديبة .. النابغة .. فريدة العصر .. ملكة دولة الإلهام .. حلية الزمان .. الدرة اليتيمة .. وغيرها من الألقاب التي تعكس قدر الاحترام والإجلال اللذين حظيت بهما مي من كتاب عصرها.
ولكن ورغم كل هذا التوهج واللمعان في سماء الفكر والأدب .. هل كانت أديبتنا النابغة سعيدة ؟ هل أضاءت تلك الشمس المشعة حياتها .. أم أشرقت فقط في حياة الآخرين ؟! واحترقت هي ؟! هذا ما سوف نعرفه في الفصول القادمة ..![/size]
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل الرابع
الذين أحبوا " مي "
قضبان النوافذ في السجن تنقلب أوتار قيثارة لمن يعرف أن ينفث في الجماد حياة . هكذا كتبت مي في إحدى مقالاتها وهكذا كانت هي في حياتها القصيرة بقياس الزمن . الغنية .. العميقة بقياس القيمة والآثار الباقية.
ولعل معظم الرجال الذين التقوا بها سواء مباشرة أو عن طريق القلم والأوراق .. أحبوها ! واختلفت ملامح تلك العواطف وطرق التعبير عنها باختلاف شخصية كل منهم .. ودرجة اقترابه من فهم شخصية مي و تركيبتها الفكرية والإنسانية .
وأغرى هذا الجانب الهام من حياة مي الكثير من الكتاب والباحثين للغوص في تفاصيله ودقائقه وصولاً إلى الحقيقة وإجابة للسؤال الحائر :
من هو الرجل الحقيقي في حياة مي ؟ أو من هو الذي فاز بقلب مي وسط كل هؤلاء الرجال المحترمين ؟
هل هو العقاد ؟ هل هو ولي الدين يكن ؟ هل كان مصطفى صادق الرافعي ؟ هل كان أنطون الجميل ؟ أم خليل مطران ؟ هل كان أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد أم الشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء ؟ هل كان الشاعر إسماعيل صبري أم الشيخ مصطفى عبد الرازق , هل كان هو الدكتور طه حسين أم الشاعر جبران خليل جبران ؟
كثير من أعلام عصرها نسجت حولهم القصص والحكايات تربط بينها وبين كل منهم . وأطلق الناس لخيالهم العنان ليختلقوا العديد من قصص الحب في حياة مي . وكان الكثير منها من وحي الخيال والقليل منها حقيقي .
يقول الكاتب مارون عبود : كل من رأى مي , وكل من شهد مجلسها أحبها . أما هي فظلت كسنديانة صامدة وكالجبل ما يهزه ريح .
كان الكاتب المفكر عباس محمود العقاد .. وهو من ألمع مفكري عصره لا ينكر حبه لمي , وقد لمح له كثيراً في روايته سارة وأعطى مي اسماً مستعاراً هو هند . وعرفها العقاد في البداية عن طريق مقالاتها في الصحف ثم من كتبها . وبدأت علاقتهما بالخطابات هو من أسوان بلدته التي يقيم بها قبل استقراره في القاهرة .. وهي من القاهرة حيث استوطنت مصر بعد قدومها من لبنان بصحبة والديها.
وعندما عاد العقاد من أسوان سارع بزيارة مي يملؤه الشوق والحنين إلى تلك الشخصية التي فتنته قبل أن يراها !
وتقارب الأديبان : العقلان والقلبان . لكن حب العقاد لمي كان مختلفاً عن حب مي للعقاد . كان العقاد يؤمن بطوفان المشاعر وتوحد الحبيبين نفساً وروحاً وجسداً .. وكانت مي تؤمن بالحب الصافي , السامي .. العفيف الذي يرتفع عن رغبات الجسد ويسمو إلى عالم الروحانيات وصداقة الفكر.
ولا شك أن العقاد احترق بحب مي في صمت والدليل على ذلك قصائده الكثيرة إليها التي تحمل كل مشاعر الحب والتتيم بها .
ويقول الكاتب عبد الفتاح الديدي : يبدو أن هذه الفتاة لعبت أخطر دور في حياة العقاد لأنها أعطته السعادة ومالم يكن يخطر له على بال , ولكنها وقفت أمامه نداً لند وناوأت رجولته وسطوته وكبرياءه . وصدمت أحلام العقاد بفرديتها واستقلالها وشبابها المتأنق المدرك لأصول العلاقات.
وسئل العقاد مرة كيف كان يجمع بين حبين في وقت واحد: حب مي وحب سارة؟ فأجاب عن هذا السؤال قائلاً : إذا ميّز الرجل المرأة بين جميع النساء فذلك هو الحب .. وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد .. لكن لا بد من اختلاف في النوع , أو في الدرجة, أو في الرجاء , فيكون أحد الحبين خالصاً للروح والوجدان , ويكون الحب الآخر مستغرقاً شاملاً للروحين والجسدين .. أو يكون أحد الحبين مقبلاً صاعداً , والحب الآخر آخذاً في الإدبار والهبوط . أما أن يجتمع حبان قويان من نوع واحد في وقت واحد فذلك ازدواج غير معهود في الطباع , لأن العاطفة لا تقف ولا تعرف الحدود .. وإذا بلغت العاطفة مداها جبَّتْ ما سواها .
ويصف العقاد في روايته " سارة" طبيعة علاقته بمي دون التصريح باسمها .. بل اختار لها اسماً مستعاراً هو : هند . فيقول : كان يحبها الحب الذي جعله ينتظر الرسالة أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء , وكانا كثيراً ما يتراسلان أو يتحدثان , وكثيراً ما يتباعدان ويلتزمان الصمت الطويل إيثاراً للتقية واجتناباً للقال والقيل وتهدئة من جماح العاطفة وإذا خافا عليها الانقطاع.
ولكنهما في جميع ذلك كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين يتلاقيان وكلاهما على جذوره , ويتلامسان بأهداب الأغصان , أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق .
كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل , ولا يزيدان . وكان يغازلها فتومئ إليه بإصبعها كالمنذرة المتوعدة , فإذا نظر إلى عينيها لم يدر أتستزيده أم تنهاه , ولكنه يدري أن الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز .
وكان يكتب لها فيفيض ويسترسل , ويذكر الشوق والوجد والأمل , فإذا لقيها بعد ذلك لم ير منها ما ينم عن استياء , ولم يسمع منها ما يدل على وصول الخطاب , وغنما يسمع الجواب باللحن والإيماء دون الإعراب والإفصاح .
وربما تواعدا إلى جلسة من جلسات الصور المتحركة في مكان لا غبار عليه , فيتحدثان بلسان بطل الرواية وبطلتها , ويسهبان ما احتملت الكناية والإسهاب , ثم يغيران سياق الحديث في غير اقتضاب ولا ابتسار .
وكانا أشبه بالنجمين السيارين في المنظومة الواحدة , لا يزالان يحومان في نطاق واحد , ويتجاذبان حول محور واحد , ولكنهما يحذران التقارب .. لأنه اصطدام ؟
ولم تكن هي لتعتقد الرهبانية فيه , ولا تزعم بينها وبين وجدانها أنه معزول عن عالم النساء . غير أنها لم تكن تحفل اتصاله بالنساء ما دام اسمهن نساء , لا يلوح من بينهن اسم امرأة واحدة , وشبح غرام واحد . فإن اسم النساء في هذه الحالة لا يدل على معنى , ولا انتقاص فيه لما بينهما من رعاية واستئثار.
كانت الخطابات المتبادلة بين مي والعقاد ثروة أدبية .. فكرية .. إنسانية ودليل في نفس الوقت على رابطة متينة قوية بين الطرفين .
يحدثنا أحمد حسين الطهاوي عن ذلك في كتابه : " غرام مي وجبران بين الحقيقة والخيال " .. فهو يلاحظ في رسائلها الغرامية إلى جبران أنها كانت تعيش شبه حالة حب مع عباس محمود العقاد استناداً إلى رسائل اكتشفها طاهر الطناحي وتقول في إحداها :
وكانت مؤرخة في 20 أغسطس ( آب) 1925 :
إنني لا أستطيع أن أصف لك شعوري حين قرأت القصيدة التي أرسلتها لي , وحسبي أن أقول لك أن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان .
بل إنني خشيت أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد , منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة " المحروسة" . إن الحياء منعني , وقد ظننت أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك . والآن عرفت شعورك , وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران .. لا تحسب إنني اتهمك بالغيرة من جبران , فهو في نيويورك لم يرني ولعله لن يراني , كما أنني لم أراه إلا في تلك الصور التي تنشرها الصحف .
سأعود قريباً إلى مصر , وستجمعنا زيارات وجلسات أفضي فيها لك بما تدخره نفسي , ويضمه وجداني , فعندي أشياء كثيرة أقولها لك .
وفي قصة " سارة" التي كتبها العقاد .. وروى فيها حبه لامرأتين هما " سارة " و"هند" .. وصفها فقال : إحداهما حولها نهر يساعد على الوصول إليها .. والأخرى حولها نهر يمنع من الوصول إليها وكان يقصد بالأخرى مي .
وقال العقاد عن مي ذات مرة :
لقد كانت متدينة تؤمن بالبعث .. وأنها ستقف بين يدي الله يوماً , ويحاسبها على آثامها , فكانت برغم شعورها بالحياة, وإحساسها العمق الصادق , وذكائها الوضاء , وروحها الشفافة , ورقتها وأنوثتها تحرص على أن تمارس هذه الحياة بعفة واتزان .
وكتب العقاد في مي العديد من القصائد التي تظهر بوضوح ذلك الحب الذي ملك وجدانه .. حبه لمي . ومنها قصيدة بعث بها إليها في روما حيث كانت تقضي أجازة صيف عام 1925 . وخلال تلك الفترة تبودلت الرسائل بينهما كلها تنم عن شوق مكبوت من الطرفين ..
مي .. ولطفي السيد
كان أستاذ الجيل أحمد لطفي شغوفاً بالأدب العربي وكان محامياً .. وتولى رئاسة تحرير جريدة " الجريدة" لعدة سنوات .. وكانت بداية معرفته بمي في لبنان . كان يقضي أجازة الصيف في بيروت وكانت هي هناك مصادفة . وبينما كان يتناول عشاءه في الفندق .. لمح بالغرب منه فتاة شرقية الملامح تتحدث بفرنسية طلقة مع قنصل فرنسا في مصر , وتدافع عن المرأة الشرقية وحقوقها بحماس.
لفتت نظره هذه الفتاة فسأل صديقه الذي كان بصحبته
من هذه الفتاة ؟
فأجابه خليل سركيس :
إنها ماري زيادة بنت الصحفي المعروف إلياس زيادة صاحب جريدة " المحروسة " .. وبعد أن انتهت مقابلة مي مع القنصل تقدم إليها خليل سركيس الذي كان يعرفها شخصياً .. وقدمها إلى أحمد لطفي السيد .
وبدأ اهتمام أحمد لطفي السيد بمي .. كما قدرت مي هذا الاهتمام وتلك الرعاية تقديراً كبيراً . فأهدت إليه كتابها " ابتسامات ودموع" عندما عادت إلى مصر .. وعاد هو كذلك وكان الكتاب ترجمة لرواية ألمانية .
وتابع أحمد لطفي السيد مقالاتها التي كانت تكتبها في جريدة والدها " المحروسة" تحت عنوان " يوميات فتاة" . ولاحظ لطفي السيد أن أسلوب مي متأثراً كثيراً بثقافتها الغربية , فوجهها إلى الاهتمام باللغة العربية , ونصحها بقراءة الأدب العربي .
وذات يوم التقت به في إحدى الجلسات فقال لها :
لا بد لك يا آنسة من تلاوة القرآن الكريم , لكي تستفيدي من بلاغة معانيه , وفصاحة أسلوبه .
فقالت له مي :
ليس عندي نسخة من القرآن .
فقال لها :
أنا أهدي لك نسخة منه !
وبعث إليها الاستاذ لطفي السيد في اليوم التالي نسخة من القرآن الكريم مع كتب أخرى في الأدب العربي.
وتعترف مي بفضل لطفي السيد عليها فتقول :
ابتدأت أفهم من لطفي السيد اتجاه الإسلوب العربي , وما في القرآن من روعة جذابة ساعدتني على تنسيق كتابتي ورقي أسلوبي.
وتبادلت مي مع أستاذها لطفي السيد الرسائل الأدبية التي احتوت آراء وخواطر وأشجان كل منهما .. كما تخللتها الكثير من العواطف النبيلة والمشاركة الوجدانية الحقيقية .
في 15 مايو 1913 كتب إليها من مصيفه بالإسكندرية خطاباً جاء فيه :
جاءني كتابك , فتشممته ملياً , وقرأته هنيئاً مريئاً , وإني ممتنع نهائياً عن أشرح لك العواطف. وكل ما يأذن لي تهيبك أن أبوح به هو أني من الصباح إلى هذا المساء وأنا وحدي , فلم أستطع أن أمسك القلم , لأجيب عليه بصراحتي العادية , فما وجدت بداً من الركون إلى أسلم الطرق , وهو أن أحفظ لنفسي وصف الاغتباط الذي نالني من هذا الكتاب.
اعترفي بأنك كنت في ساعة من ساعات تجلياتك حين كتبت لي هذه الرسالة , ان فيها أفكاراً ومرامي ذات وزن كبير , وفيها مقاصد ومعان تكاد تطير من خفتها , أو تذوب من رقتها . أجناية أن أتحدث بهذه السابغة ؟!! إلا أن للأرواح أيضاً غذاء يتنزل عليها من مكان أسمى من مكانها العادي , وهزة تأخذها حين تتقابل جاذبيتها . لعل ذلك هو سر السعادة الإنسانية التي يلتمسها الناس , فلا يعرفون طريقها .
وكانت مي سعيدة باهتمام أستاذها أحمد لطفي السيد , فحافظت على علاقتها به ودعمتها بكل المودة والاحترام والاهتمام .. وكانت تستقبله مع أصدقائها المقربين في غير أوقات الصالون.
ودامت هذه العلاقة قوية .. حقيقية تجمع بين أستاذ وأديبة موهوبة .. تحمل له العرفان بالجميل والاحترام والمحبة .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
مي .. ومصطفى صادق الرافعي
عاش الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي قصة حب كبيرة مع مي زيادة .. لكنها كانت قصة حب من طرف واحد هو مصطفى الرافعي !
فقد احترق الرافعي حباً وهياماً بمي وتوهم أن مياً تحبه وهو مالم يكن صحيحاً.
ولكن هذا الحب الكبير أنتج كذلك أدباً غزيراً وجميلاً . فكتب الرافعي لـ مي مجموعة كبيرة من الرسائل تشكل وثائق أدبية وشخصية هامة حول حياة كل منهما .
ورغم أن الرافعي كان يفهم شخصية مي جيداً وقال ذات يوم في وصفها :
إن كل من حادثها ظن أنها تحبه , وما بها إلا أنها تفتنه.
وكانت مي تراسل الرافعي كما كانت تفعل مع معظم أدباء صالونها المقربين . ولكن رسالة من رسائلها كانت توحي بشيء خاص بينهما قالت فيها :
أتذكر إذ التقينا وليس بنا شابكة , فجلسنا مع الجالسين , لم نقل شيئاً في أساليب الحديث , غير أننا قلنا ما شئنا بالإسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما ! وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل , كأن في كلينا قلباً ينتظر قلباً من زمن بعيد .. ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسحلتها . وقلت لي بعينيك .. أنا .. وقلت لك بعيني : وأنا .. وتكاشفنا بأن تكاتمنا وتعارفنا بأحزاننا , كأن كلينا شكوى تهم تهم أن تفيض ببثها .. وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تصنع الحزن في نفس من يراها .. فإذا هو إعجاب , فإذا هو إكبار , فإذا هو حب .
وهذه الرسالة شكك بعض النقاد في أن مي زيادة أرسلتها فعلاً إلى الرافعي .. بل قالوا إنه هو الذي تلبس أسلوب مي وكتب الرسالة إلى نفسه !!
وعن مي كتب الرافعي ثلاثة كتب من أروع ما كتب هي : " رسائل الأحزان " .. " أوراق الورد " .. و " السحاب الأحمر " .
وكان يعيش الرافعي – الذي يكبر مي بأكثر من ثلاثين عاماً – في طنطا مع زوجته وأولاده العشرة . وكان يحضر صالون الثلاثاء الأسبوعي في بيت مي قبل الجميع , وهو في كامل أناقته , وكانت مي تستقبله بحفاوة واحترام , وتوليه عناية خاصة , ولكن رغم كل ذلك .. لم يكن هو الحبيب الذي ملك قلبها.
مي .. وإسماعيل صبري
كان شيخ الشعراء إسماعيل صبري من أكثر رواد صالون مي حرصاً على حضور كل أمسياته .. وفي إحدى هذه الأمسيات مرض , ولم يستطع الحضور .. فإذا به ينظم أبياتاً تدل على حب وتتيم بمي .. وبكم إحساسه بالندم والحزن لأنه سيخسر ليلة من لياليها التي تروي روحه وتمتع نظره وتشبع فكره ووجدانه .. فيقول الشاعر إسماعيل صبري :
روحي على بعض دور الحي حائمة *** كظامئ الطير حواماً على الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غداً *** أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
وهذه قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي يصف فيها أيضاً افتتانه بمي كأديبة وكامرأة:
أسائل خاطري عما سباني *** أحسن الخلق أم حسن البيان ؟
رأيت تنافس الحسنين فيها *** كأنهما لمية عاشقان
إذا نطقت صبا عقلي إليها *** وإن بسمت إليَّ صبا جناني
أم أن شبابها راث لشيبي *** وما أوهى زماني من كياني
***
أحبوها جميعاً .. كل بطريقته وأسلوبه .. أحبوا الشعاع المشرق .. الشمس التي يغمر نورها الجميع .. لكنها كانت تملك داخلها قمر معتم .. يملؤه الفراغ والغربة .. والبحث عن الحب الحقيقي .. الذي تمنت أن تجده ... !
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل الخامس
مي .. التي لم ينصفها الرجال !
لم ينصف مي كاتب أو أديب من رجال عصرها ! هذه حقيقة بكل أسف فرغم التتيم والانبهار الذي سيطر عليهم جميعاً بشخصية مي وثقافتها الفريدة .. وروحها الشفافة . إلا أنهم جميعاً رأوها من الخارج .. لم ينفذ أحدهم إلى أعماقها ليقرؤها جيداً .. ويفهمها . ربما لو فعل أحدهم ذلك لأحبها أكثر ..
وهذه كانت بداية المحنة الكبيرة التي عاشتها مي في الفصل الأخير من حياتها المعذبة . محنة أن يشعر إنسان معجون بالإحساس بزيف المشاعر أو سطحيتها . إنه شعور يلسع الروح , ويوجع القلب المرهف .
ربما فهمتها أكثر أديبات جيلها والأجيال التي تلتها .. ربما كان هناك خيطاً مشتركاً من الألم الشخصي جمع بينها وبين بنات جنسها ممن احترفن الكتابة , وعشقن القلم والأدب .. ربما كان الوجع واحداً رغم اختلاف الظروف والشخصيات .. المكان والزمان . لذلك حللت الكثيرات من الاديبات والكاتبات الوجع الحقيقي الذي عاشته مي .. وتشابهت رؤية كل منهن في الكثير من الجوانب .
فقالت عنها الدكتورة عائشة عبد الرحمن .. المعروفة بـ " بنت الشاطئ ":
أنا ما عرفت مي هذه التي يعرفها الناس ويتحدثون عنها . لكني عرفت مي الإنسانة الشهيدة !
فليحدثكم سواي عن عبقريتها ونبوغها وفجيعة الأدب فيها .. أما أنا فأحدثكم عن مي الفتاة الإنسانة التي عاشت وأحبت وتعذبت وكابدت .. ثم قضت فاستراحت .
غيري يسكب الدمع لموت مي . وأنا أسكب الدمع على حياة مي , وما حياتها إلا قصة استشهاد طويل !
إن أكثرهم قد رآها في هالة من أضواء الشهرة , يتوجها إكليل من المجد وتضج حولها صيحات الهتاف , فهل منكم من غالب الأضواء فرأى في إهاب الكاتبة الشهيرة , الإنسانة التي تتألم وتتوجع وتتلوى والناس من حولها يهتفون لها !!؟
لقد ضاعت إنسانية مي وتجوهلت , وفنيت في غمار الشهرة وهي حية , فهل نضيعها وهي ميتة ؟
كلا ! إنني أكشف اليوم عن جراحها , وأفضى عنها ثوب الكاتبة , لتشهدوا الإنسانة المتألمة الشاكية الضالة المحبة المحرومة !
وبدأت " بنت الشاطئ" تحكي قصة مي :
لقد جاءت إلى هذا العالم طلعة , فيها من التطلع فوق ما في الناس تلفتت واستشرفت , وسارت وتقدمت ... ومضت كالشعلة تضرب بالأرض فتتلهب ! رأت أفواج الناس يندفعون في سباق مجنون . إلى الشهرة , والمجد , والمال .. ولمحت في عيونهم بريق الرغبة والظمأ . فاندفعت في موكبهم , ووثبت إلى الطليعة , ووقفت في آخر الشوط تلهث . فرأت الهرة التي جن بها الناس ملء يديها . ورأت المال الذي فتن الناس ملء راحتيها .. ولكنها افتقدت سعادتها في هذا كله فآبت بالخيبة والفشل ! والناس من حولها يهتفون لها !
ربحت السباق . ولكن نفسها تيقظت تسألها أين سعادتها ؟! ويالهول هذه اليقظة في إنسانة ذكية الفؤاد .. كبيرة القلب , ملتهبة الحس !
لقد عبرت مي عن مأساتها في سطور من كتابها : " ظلمات وأشعة " فقالت :
وقفت عند كوة الحياة , وإذا بالناس يمرون .. ثم أوحى إلى بأن هناك وجوداً غير ملموس يدعى السعادة , وشعرت بإحتياج محرق إلى التمتع بها , ولما انتهى دور الوقوف في الكوة , وجدتني بين الجماهير ووجهتي مرقص الحياة جاهلة من ذا يسيرني .. فتناولني حيناً دوار الاختلاط بالجمع الكبير .. ولم يفتأ ذلك الوحي المعذب يهمس في سورته , وذلك الاحتياج المتوهج يضرم فيَّ ناره , ففهمت أمراً آخر وهو أنه حيث تكون العاطفة متيقظة مرهفة , فهناك النزاع الأليم والاستشهاد .. وإذا رافقتها الأنفة وشرف السكوت على مضض الحروق والكروب , فهناك مأساة تتجدد مع الأيام .
كان الناس يظنونها سعيدة وهي في قمة المجد والشهرة بينما هي تناجي نفسها وحيدة تقول :
أي شمس تغيب فيك أيتها الفتاة , ولماذا يشجيك المساء لتغشى عينيك هذه الكآبة الربداء ؟ لقد انتعشت جميع الأشياء , أما أنت فتلوبين جائعة عطشى , وراء الملل والسآمة وهيج فيك واحتدام !
إخبريني ما بك .. لماذا أراك ترقبين ما ليس بالموجود وتشتاقين ما ليس بالبادي ؟ وإذا تحولت عنك إلى مرآتي , رأيت هناك وجهك مفجعاً حزيناً
جميع الأشياء انتعشت , وأنت .. أي علة تضنيك فتلوبين وتتأوهين ؟
***
هكذا عاشت مي تفتش في الحياة عما لا تجد , وتنادي من لا يجيب . كانت تفتقد سعادة الإنسانة الطبيعية ومشاعر الأنثى . وتصرخ في أخريات سنوات حياتها ..
أنت أيها الغريب ! سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني .. وأبثك شكوى أحزاني , أنا التي تراني طيارة طروباً .. وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفي وحنت رأسي منذ فجر أيامي , أنا التي أسير محفوفة بجناحين متوجة بإكليل !
وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة , أنا الني تتخيل فيّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد !
هذه صلاة الإنسانة المشردة المتعبة , رفعتها إلى الغريب , ولكن الغريب لم يلب النداء ! ومضت المسكينة تكابد وتتجلد وتموت !
مي مزقها الظمأ والبرد والحرمان .. فتألمت .. وتعبت .. ثم صرخت !
وقالت عن نفسها : أنا لغز حي تائه , تلبد جو فكري بالغيوم وقلبي منفرد حزين ... أراني في وطني , تلك الشريدة الطريدة التي لا وطن لها ! أنا وحدي , وحدي في الدنيا , تلك التي لا وطن لها !
صرخت مي لكن صرخاتها تاهت وسط صيحات الهتاف بمجدها .. وتألمت .. لكن أوجاعها ذابت في شعاع الشهرة .
لم ير الناس على رأسها إلا عظمة المجد بينما هي تنزف دموع قلبها من الداخل .. وتقول في سطورها :
جاء المساء مرة أخرى .. جاء المساء وتبعه الليل . وعيناك قرب السراج جامدتان جمود من يتأمل جثة , فأشعر بأن شيئاً فيك أمسى جثة !
ونجد كاتبة أخرى هي غادة السمان تبدي وجهة نظرها في أسباب مأساة مي فتقول :
أرى في ( أيام العز ) التي عاشتها في منتداها بداية لمأساتها وآلامها وجحيماً من نوع خاص لا تقل عزلتها الروحية داخله عما عرفته في المستشفى العقلي الذي تم زجها فيه .
فالزحام المتملق حضور موحش , ومي كامرأة ذكية ومرهفة كانت بالتأكيد تعي وخز الاستهانة بإبداعها ككاتبة , ومعظم الذين حولها يمطرونها بزبد الإعجاب الملتبس بشخصها الناعم قبل إبداعها . وهو إعجاب متنصل منها إبداعياً , ويتجلى ذلك التنصل المتملص في لحظات الصدق النقدية المكتوبة لا المدائح الشفهية المجانية .
نجد مثلاً عباس محمود العقاد يقول عنها :
صيرت مي الدنيا كلها غرفة استقبال لا يصادف فيها الحسن ما يصدمه ويزعجه , أو هي صورتها متحفاً منضوداً لا تخلو زاوية من زواياه من لباقة الفن وجودة الصنعة .
أما حين يضطر للإجابة عن سؤال حول أدب مي فنجده يقول :
اقرأ كتابة مي لا تجد فيها ما يغضبك . (!) ليكن لك رأيك في أسلوب الكتابة أو نمط التفكير أو صيغة التعبير فما من كاتب إلا وللناس في أسلوبه وتفكيره وصيغ تعبيره آراء لا تتفق . أما الإنسان في مي ذلك الكائن الشاعر الكامن وراء الكاتب منها والمفكر والمعبر فلا يسع الآراء المتفرقة إلا أن تتفق فيه وتصافحه مصافحة السلام والكرامة.
وهكذا نرى كيف يهرب العقاد من إبداء نقد صريح ورأي واضح في مي الأديبة والكاتبة ويخفى ذلك وراء امتداح لطفها وإنسانيتها !!
وتقول غادة السمان :
ولعل مي زيادة المتوجة على عرش صالونها الأدبي وعت تدريجياً وبكثير من المرارة أنه لا شيء أسوأ من العداوة إلا الود المزور والمحبة الحمقاء والعواطف الخرقاء .
وقد عانت مي منذ بداياتها من الخلط بين جمال الكاتبة وجمال إنتاجها الأدبي والفكري . بين حضورها الأنثوي وقدراتها الإبداعية التي لا علاقة لها بالتأنيث أو التذكير .
ولم يقتصر ذلك على حياتها فحسب .. بل امتد _ للأسف _ بعد وفاتها المأساوية فقد صدرت العديد من الكتب تحمل روايات وقصص عن عشاق مي .
وترد الكاتبة إيلين عبود في مجلة دنيا المرأة في عام 64 على هؤلاء فتقول :
لو أن أدباءنا أعزهم الله , تحولوا عن البحث بما يتعلق بعشاق مي إلى البحث في تراثها الأدبي على ضوء الحقبة التي عاشت فيها لأسدوا إلى روحها جميلاً , وأسدوا فضلها إلى الناشئة من فتيات وفتيان جلهم يجهلها أديبة عربية لها مؤلفاتها القيمة وخواطرها الرائعة .
وترى غادة السمان : إن العزلة الداخلية المروعة لـمي جعلتها تهرب من المناخ الروحي الخانق للمعجبين بقشرتها إلى عالم حقيقي خيالي في آن معاً . فأحبت رجلاً من وهم وضباب ومسافات اسمه : جبران خليل جبران , وتعلقت به عبر القارات دون أن تراه ولو لمرة واحدة , ربما هرباً من كل ما تعرفه إلى ما تجهله , ومن زحام يحيط بها , يسكبها في قالب الملهمة الموحية والأنثى اللطيفة . ناسياً أنها ليست دمية وأنها بدورها تبحث عن ملهم روحي وإنسان .
وفي معظم مدائح بعض رواد صالونها يتجلى التخلي عنها كفنان ند .. تحت ستار تمجيد أنوثتها وجمالها وحضورها الآسر .
تلك كلها مشاعر موجعة .. آلمت مي وأوجعتها وكانت بداية النهاية لإسطورتها الحزينة . تلك الهوة بينها وبين الحب الحقيقي التي لم يملأها أحد .. فسقطت هي نفسها فيها مع موت أحبابها تباعاً .. والدها .. والدتها .. ثم جبران . وغدر الأهل وطمعهم في المال والورث .. ثم المؤامرات الأخيرة التي فتكت بها تماماً .. وقضت على البقية الباقية منها .
لقد لقبوها بـ " عروس الأدب النسائي " .. فهل لقب أحد أدباء عصرها اللامعين بـ " عريس الأدب الرجالي "؟! إن هذا السؤال والإجابة عنه يلخص معاناة مي الحقيقية . فقد حالت أنوثتها بينها وبين النقاد والكتاب من زوار ندوتها .. ووقفت هذه الأنوثة بينها وبين إبداعها الفكري وإنتاجها الأدبي .
فرجال عصرها انشغلوا بها كظاهرة نسائية فريدة لم يكن في ذلك العصر مثيلاً أو حتى شبيهاً لها . فكل الذين كتبوا عنها لم ينسوا أنها امرأة , فحللوها من هذا المنطلق دون حرج ناظرين إلى أنوثتها على حساب فكرها . فكتبوا عنها كلاماً لا يتصور أحد أن يكتب مثله لو كان عن رجل !
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
ويقول الدكتور جوزيف زيدان أستاذ الأدب العربي بجامعة ولاية أوهايو في الولايات المتحدة الامريكية .. ومؤلف كتاب " الأعمال المجهولة لمي زيادة ":
على الرغم من إطلاق شتى الأوصاف الرفيعة عليها مثل " الأديبة النايغة " و " فريدة العصر " و " ملكة دولة الإلهام " و " حلية الزمان " و " الدرة اليتيمة " بقيت مي في نظر المؤسسة الأدبية الرجالية امرأة حتى أطراف أصابعها يصح أن تعامل وتقدم كأية امرأة .
يصفها – مثلاً- صديقها أسعد حسني قائلاً :
وكانت مي على رغم سعة اطلاعها وعظيم استنارتها أبعد النساء عن " الاسترجال " وأشدهن استمساكاً بالخصائص النسوية .. بقامتها الربعة ووجها المستدير , وهي زجَّاء الحاجبين , دعجاء العينين , يتألق الذكاء في بريقها , وشعرها الطويل يجلل صفحة جبينها .
أما سلامة موسى فيقرر : لم تكن مي جميلة ولكنها كانت حلوة !!
ويصف فتحي رضوان لقاءه الأول بمي عندما ذهب إلى بيتها فيقول :
حينما دققت الجرس فتحت لي الآنسة مي بنفسها , فلاحظت لأول وهلة أن لها عينين ضيقتين تبدوان للنظار كأن بهما أثراً من رق قديم , فليس فيهما شيء من الجمال . أما مي نفسها فممتلئة غير مترهلة , وأظنها أقرب إلى القصر من الطول .
ولم يقف فتحي رضوان عند وصف شكلها وجسدها بشكل تفصيلي .. بل وصف صوتها أيضاً .. فقال :
وصوت مي تشوبه رنه حزن لا أدري إذا كانت طبيعية أم مصطنعة , وهي تقطع عباراتها , وكأنها تلحنها وتوقعها كأغنية (!!) .
حتى نساء عصرها تحدثوا عن مي كامرأة فقالت عنها السيدة هدى شعراوي :
لم تكن مي على وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعنى الصحيح للجمال ( !)
وهنا نتساءل : لماذا لم يصف أحد كاتباً رجلاً مثل هذه الأوصاف الجسدية والصوتية .. ولماذا وضعت هي تحت الميكروسكوب الرجالي .. والنسائي أيضاً ؟!.
الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان الكاتب فتحي رضوان عندما قال :
مي كانت ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة أدبية . فقد كانت مي آنسة لبنانية , تكتب العربية والفرنسية , وتقابل الرجال , وتتحدث إلى الأدباء وأهل الفكر , ويتحدثون إليها , وفيهم أكثر من أعزب عاش حياته بلا زوجة , وهم جميعاً بين متزوج وأعزب يضطربون في مجتمع لا تبدو فيه المرأة إلا كالطيف . وإذا أسفرت واحدة من النساء كانت كالمحجبة تماماً , لأنها لا تحسن حديثاً يشوق الرجل المثقف أو يمتعه , أو يثير خياله أو يوحي إليه أو يلهمه بفكرة أو عاطفة أو خاطره .
إلى هذا الحد ظلم الرجال عقل مي وفكرها وإبداعها .. وتجاهلوا إنتاجها الفكري الثري والفريد .. واكتفوا بمدحها كمحدثة جيدة .. ومثقفة ملهمة .. وشخصية محبوبة !!
لكن الإنصاف يأتي ولو بعد حين ....
لم يأت ممن عاصروها .. لكنه أتى من أجيال متعاقبة من أحفادها وحفيداتها ممن يؤمنون بالرسالة الأخلاقية لمهنة القلم . وربما أنصفها رجال من غير عصرها لأنهم لم يقعوا تحت تأثير جاذبيتها الإنسانية والأنثوية .. بل استحوذت عليهم جاذبية أخرى أعمق تأثيراً هي جاذبية العطاء الأدبي والفكري والإنساني .
فعكف الدكتور جوزيف توفيق زيدان على جمع الأعمال المجهولة لـ مي زيادة قبل أن تلتهمها يد الزمن والإهمال .
ويقول في مقدمة كتابه :
كان ذلك في ربيع عام 1990 . وكنت أتردد على دار الكتب بالقاهرة لإعداد بحث عن المسرح الشامي في مصر , عندما تيقنت أنني وقعت على كنوز مطمورة تحت الغبار آخذة بالتلف بسبب ظروف الصيانة المؤسفة للدوريات . وراعني أن من بين هذه الكنوز مقالات لـ مي ذات أهمية أدبية وتاريخية كبرى إذ أنها تلقي أضواء جديدة على تطور حياة مي الفكرية , وهي مقالات حول مواضيع شتى لم تجمع في كتاب كانت قد نشرتها في صحف يومية مثل " المحروسة" و " الاهرام" وفي مجلات مثل " الزهور" و " المقتطف" و " مجلة النهضة النسائية" و " مجلة المرأة العصرية" و " الهلال" و " الرسالة" .
ويروي د. جوزيف زيدان تجربته الصعبة في إنجاز هذه المهمة النبيلة فيقول :
وأكثر ما حز في قلبي أني وجدت أوراق بعض هذه الدوريات , وخاصة " المحروسة " و " الاهرام" قد أخذت تتآكل وتتفتت مهددة مقالات مي بالإضمحلال حرفياً . ومما زاد الطين بلة أن تجليد أعداد هاتين الجريدتين لم يتم أصلاً على الوجه الصحيح , ففي كثير من الأحيان نجد أن المجلد قد تعدى النهر الأول من الصفحة الأولى للجريدة فأخفاه أو أخفى جزءاً منه .
إن مشاعر الألم والحزن التي كانت تتملكني وقتها كلما اكتشفت أن النهر الأول من كثير من مقالات مي قد التهمته خيوط التجليد تحولت إلى تصميم عنيد على إنقاذ هذه الآثار . فعكفت على العمل في هذا المشروع حتى نهاية الصيف , مصوراً ما أمكن تصويره , وناسخاً باليد مالا تصله عدسة آلة التصوير أو ما لا يمكن نقله إلى قسم التصوير لأنه في حالة من التضعضع يرثى لها . وزاد شعوري بأني في سباق مع الوقت بعد أن اتضح لي أن قسماً كبيراً من هذه الدوريات غير متوفر في أية مكتبة في العالم ما عدا دار الكتب المصرية .
ولم يكن د.جوزيف توفيق زيدان هو الوحيد الذي بحث عن مي الكاتبة وآثارها الأدبية الفريدة.. بل صدرت العديد من الكتب لباحثات وباحثين .. وكاتبات وكتاب آخرين تبحث وتكشف الستار عن مي زيادة الكاتبة والأديبة وصاحبة أشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. ومنها على سبيل المثال كتاب " المؤلفات الكاملة لمي زيادة " الذي صدر في جزأين وعكفت على جمعه وتحقيقه سلمى الكزبري ونشرته دار نوفل ببيروت . وكتاب طاهر الطناحي " أطياف من حياة مي" الذي صدر عن دار الهلال بمصر . وكتاب فاروق سعد " باقات من حياة مي" الذي نشر ببيروت . وكتاب محمد عبد الغني حسن " مي زيادة أديبة الشرق والعروبة" الذي صدر عن عالم الكتب بالقاهرة . وكتاب وداد السكاكيني " مي زيادة في حياتها وآثارها" الذي صدر عن دار المعارف بمصر وكتاب وديع فلسطين ” مي وصالونها الأدبي" وصدر في لبنان .وكتاب جميل جبر " مي في حياتها المضطربة" وصدر في لبنان. وكتاب عبد السلام هاشم حافظ " الرافعي ومي" وكتاب عبد اللطيف شرارة " مي زيادة " وصدر في لبنان . وكتاب كامل الشناوي " الذين أحبوا مي" وصدر في القاهرة . وكتاب منصور فهمي " مي زيادة ورائدات الأدب العربي الحديث " وصدر في القاهرة وكتاب أنطون القوال " نصوص خارج المجموعة.. مي زيادة" وصدر في لبنان وكتاب خالد محمد غازي " جنون امرأة" وصدر في مصر وكتاب د. ماجدة حمود " رواية الحب السماوي بين جبران خليل جبران.. ومي زيادة " وكتاب سميحة كريم " مي زيادة.. كاتبة عربية " وصدر في مصر وغيرها من الكتب التي تناولت حياة مي زيادة ككاتبة و إنسانة ومفكرة سبقت عصرها .. وأحرقتها الشهرة والغربة.
وأعتقد أن كل هؤلاء حاولوا إنصاف مي التي لم ينصفها معاصروها. ولعلها الآن راضية عنا .. وهي تطل بروحها الشفافة من العالم الآخر على هذه الكتيبة من النساء والرجال .. من كاتبات وكتاب لا يزالون يبحثون عنها .. ويقتفون آثارها رغم رحيلها منذ أكثر من نصف قرن في عام 1941 .
ولعل تلك المحاولات المخلصة في كشف أثرها في الفكر والأدب والثقافة العربية , وكذلك في تأكيد ريادتها كامرأة في تلك المجالات التي كانت حكراً على الرجال . لعل في هذا كله إنصافاً لك يا مي ..
وإرضاء لعقلك الفريد .. وروحك الملائكية .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
ويقول الدكتور جوزيف زيدان أستاذ الأدب العربي بجامعة ولاية أوهايو في الولايات المتحدة الامريكية .. ومؤلف كتاب " الأعمال المجهولة لمي زيادة ":
على الرغم من إطلاق شتى الأوصاف الرفيعة عليها مثل " الأديبة النايغة " و " فريدة العصر " و " ملكة دولة الإلهام " و " حلية الزمان " و " الدرة اليتيمة " بقيت مي في نظر المؤسسة الأدبية الرجالية امرأة حتى أطراف أصابعها يصح أن تعامل وتقدم كأية امرأة .
يصفها – مثلاً- صديقها أسعد حسني قائلاً :
وكانت مي على رغم سعة اطلاعها وعظيم استنارتها أبعد النساء عن " الاسترجال " وأشدهن استمساكاً بالخصائص النسوية .. بقامتها الربعة ووجها المستدير , وهي زجَّاء الحاجبين , دعجاء العينين , يتألق الذكاء في بريقها , وشعرها الطويل يجلل صفحة جبينها .
أما سلامة موسى فيقرر : لم تكن مي جميلة ولكنها كانت حلوة !!
ويصف فتحي رضوان لقاءه الأول بمي عندما ذهب إلى بيتها فيقول :
حينما دققت الجرس فتحت لي الآنسة مي بنفسها , فلاحظت لأول وهلة أن لها عينين ضيقتين تبدوان للنظار كأن بهما أثراً من رق قديم , فليس فيهما شيء من الجمال . أما مي نفسها فممتلئة غير مترهلة , وأظنها أقرب إلى القصر من الطول .
ولم يقف فتحي رضوان عند وصف شكلها وجسدها بشكل تفصيلي .. بل وصف صوتها أيضاً .. فقال :
وصوت مي تشوبه رنه حزن لا أدري إذا كانت طبيعية أم مصطنعة , وهي تقطع عباراتها , وكأنها تلحنها وتوقعها كأغنية (!!) .
حتى نساء عصرها تحدثوا عن مي كامرأة فقالت عنها السيدة هدى شعراوي :
لم تكن مي على وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعنى الصحيح للجمال ( !)
وهنا نتساءل : لماذا لم يصف أحد كاتباً رجلاً مثل هذه الأوصاف الجسدية والصوتية .. ولماذا وضعت هي تحت الميكروسكوب الرجالي .. والنسائي أيضاً ؟!.
الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان الكاتب فتحي رضوان عندما قال :
مي كانت ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة أدبية . فقد كانت مي آنسة لبنانية , تكتب العربية والفرنسية , وتقابل الرجال , وتتحدث إلى الأدباء وأهل الفكر , ويتحدثون إليها , وفيهم أكثر من أعزب عاش حياته بلا زوجة , وهم جميعاً بين متزوج وأعزب يضطربون في مجتمع لا تبدو فيه المرأة إلا كالطيف . وإذا أسفرت واحدة من النساء كانت كالمحجبة تماماً , لأنها لا تحسن حديثاً يشوق الرجل المثقف أو يمتعه , أو يثير خياله أو يوحي إليه أو يلهمه بفكرة أو عاطفة أو خاطره .
إلى هذا الحد ظلم الرجال عقل مي وفكرها وإبداعها .. وتجاهلوا إنتاجها الفكري الثري والفريد .. واكتفوا بمدحها كمحدثة جيدة .. ومثقفة ملهمة .. وشخصية محبوبة !!
لكن الإنصاف يأتي ولو بعد حين ....
لم يأت ممن عاصروها .. لكنه أتى من أجيال متعاقبة من أحفادها وحفيداتها ممن يؤمنون بالرسالة الأخلاقية لمهنة القلم . وربما أنصفها رجال من غير عصرها لأنهم لم يقعوا تحت تأثير جاذبيتها الإنسانية والأنثوية .. بل استحوذت عليهم جاذبية أخرى أعمق تأثيراً هي جاذبية العطاء الأدبي والفكري والإنساني .
فعكف الدكتور جوزيف توفيق زيدان على جمع الأعمال المجهولة لـ مي زيادة قبل أن تلتهمها يد الزمن والإهمال .
ويقول في مقدمة كتابه :
كان ذلك في ربيع عام 1990 . وكنت أتردد على دار الكتب بالقاهرة لإعداد بحث عن المسرح الشامي في مصر , عندما تيقنت أنني وقعت على كنوز مطمورة تحت الغبار آخذة بالتلف بسبب ظروف الصيانة المؤسفة للدوريات . وراعني أن من بين هذه الكنوز مقالات لـ مي ذات أهمية أدبية وتاريخية كبرى إذ أنها تلقي أضواء جديدة على تطور حياة مي الفكرية , وهي مقالات حول مواضيع شتى لم تجمع في كتاب كانت قد نشرتها في صحف يومية مثل " المحروسة" و " الاهرام" وفي مجلات مثل " الزهور" و " المقتطف" و " مجلة النهضة النسائية" و " مجلة المرأة العصرية" و " الهلال" و " الرسالة" .
ويروي د. جوزيف زيدان تجربته الصعبة في إنجاز هذه المهمة النبيلة فيقول :
وأكثر ما حز في قلبي أني وجدت أوراق بعض هذه الدوريات , وخاصة " المحروسة " و " الاهرام" قد أخذت تتآكل وتتفتت مهددة مقالات مي بالإضمحلال حرفياً . ومما زاد الطين بلة أن تجليد أعداد هاتين الجريدتين لم يتم أصلاً على الوجه الصحيح , ففي كثير من الأحيان نجد أن المجلد قد تعدى النهر الأول من الصفحة الأولى للجريدة فأخفاه أو أخفى جزءاً منه .
إن مشاعر الألم والحزن التي كانت تتملكني وقتها كلما اكتشفت أن النهر الأول من كثير من مقالات مي قد التهمته خيوط التجليد تحولت إلى تصميم عنيد على إنقاذ هذه الآثار . فعكفت على العمل في هذا المشروع حتى نهاية الصيف , مصوراً ما أمكن تصويره , وناسخاً باليد مالا تصله عدسة آلة التصوير أو ما لا يمكن نقله إلى قسم التصوير لأنه في حالة من التضعضع يرثى لها . وزاد شعوري بأني في سباق مع الوقت بعد أن اتضح لي أن قسماً كبيراً من هذه الدوريات غير متوفر في أية مكتبة في العالم ما عدا دار الكتب المصرية .
ولم يكن د.جوزيف توفيق زيدان هو الوحيد الذي بحث عن مي الكاتبة وآثارها الأدبية الفريدة.. بل صدرت العديد من الكتب لباحثات وباحثين .. وكاتبات وكتاب آخرين تبحث وتكشف الستار عن مي زيادة الكاتبة والأديبة وصاحبة أشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. ومنها على سبيل المثال كتاب " المؤلفات الكاملة لمي زيادة " الذي صدر في جزأين وعكفت على جمعه وتحقيقه سلمى الكزبري ونشرته دار نوفل ببيروت . وكتاب طاهر الطناحي " أطياف من حياة مي" الذي صدر عن دار الهلال بمصر . وكتاب فاروق سعد " باقات من حياة مي" الذي نشر ببيروت . وكتاب محمد عبد الغني حسن " مي زيادة أديبة الشرق والعروبة" الذي صدر عن عالم الكتب بالقاهرة . وكتاب وداد السكاكيني " مي زيادة في حياتها وآثارها" الذي صدر عن دار المعارف بمصر وكتاب وديع فلسطين ” مي وصالونها الأدبي" وصدر في لبنان .وكتاب جميل جبر " مي في حياتها المضطربة" وصدر في لبنان. وكتاب عبد السلام هاشم حافظ " الرافعي ومي" وكتاب عبد اللطيف شرارة " مي زيادة " وصدر في لبنان . وكتاب كامل الشناوي " الذين أحبوا مي" وصدر في القاهرة . وكتاب منصور فهمي " مي زيادة ورائدات الأدب العربي الحديث " وصدر في القاهرة وكتاب أنطون القوال " نصوص خارج المجموعة.. مي زيادة" وصدر في لبنان وكتاب خالد محمد غازي " جنون امرأة" وصدر في مصر وكتاب د. ماجدة حمود " رواية الحب السماوي بين جبران خليل جبران.. ومي زيادة " وكتاب سميحة كريم " مي زيادة.. كاتبة عربية " وصدر في مصر وغيرها من الكتب التي تناولت حياة مي زيادة ككاتبة و إنسانة ومفكرة سبقت عصرها .. وأحرقتها الشهرة والغربة.
وأعتقد أن كل هؤلاء حاولوا إنصاف مي التي لم ينصفها معاصروها. ولعلها الآن راضية عنا .. وهي تطل بروحها الشفافة من العالم الآخر على هذه الكتيبة من النساء والرجال .. من كاتبات وكتاب لا يزالون يبحثون عنها .. ويقتفون آثارها رغم رحيلها منذ أكثر من نصف قرن في عام 1941 .
ولعل تلك المحاولات المخلصة في كشف أثرها في الفكر والأدب والثقافة العربية , وكذلك في تأكيد ريادتها كامرأة في تلك المجالات التي كانت حكراً على الرجال . لعل في هذا كله إنصافاً لك يا مي ..
وإرضاء لعقلك الفريد .. وروحك الملائكية .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل السادس
جبران .. الحب الوحيد
هل أحبت مي جبراناً ؟ وهل أحب جبران مياً ؟!
هذا هو السؤال الذي طرحه الكثيرون وحاولوا العثور على إجابة له . ولم تكن الإجابة سهلة لأن علاقة مي وجبران علاقة فريدة في تاريخ الأدب العربي .. وكأنها إحدى أساطيره الغامضة !
أسماه البعض بالحب السماوي الذي يحلق عالياً في فضاء الفكر والسمو والعفة .. ووصفه البعض بأنه محض "خيال" أو وهم جميل عاشه العاشقان عن بعد دون أن يرى أحدهما الآخر ولو لمرة واحدة في حياته !!
ورغم كل ذلك فقد تركت هذه العلاقة الفريدة العجيبة تراثاً أدبياً رفيع المستوى تمثل في تلك الرسائل الرائعة المتبادلة بين مي .. وجبران .
إنها ثروة أدبية حقيقية من نصوص كتبها أديبان توهج قلباهما بالحب .. واحترق بالغربة .. وتعذب بالحرمان .
وفي هذه الرسائل إجابة عن الكثير من التساؤلات الحائرة عن مي الإنسانة .. المرأة .. الحبيبة التي ظلت لغزاً غامضاً أمام الكثيرين من معاصريها .. وكذلك من الأجيال التالية لجيلها.
فقد سبقت مي عصرها بفكر متوثب وإبداع متوهج لكنها رغم ذلك ظلت _ حتى آخر يوم في عمرها _ امرأة شرقية محافظة حتى النخاع . فلم يستطع التحرر الفكري والثقافة المنفتحة على ثقافات العالم أن تنتزع ولو قليلاً من التزامها الأخلاقي أو الديني . ولم يمنحها نبوغها ترف أن تخرج على تقاليد وعادات الشرق . فقد كانت صارمة جداً مع نفسها .
أما هذا الحبيب الذي صنعته من وهم وحرمان ورغبات مكبوتة .. أقصد الأديب والشاعر والفنان اللبناني جبران خليل جبران فكان مختلفاً كثيراً عنها من حيث التركيبة الفكرية والإنسانية . رغم توحد مشاعرهما وتقارب معاناتهما في الغربة والوحدة ورهافة الإحساس التي تميزت بها مي كما تميز بها جبران .
جبران الذي عاش حياته حيث هاجر إلى الولايات المتحدة الامريكية . فتعود الحرية في كل شيء ومارس التعبير عن ذاته وإطلاق العنان لمشاعره دون تحفظ أو خوف . كان يريدها أن تحبه بنفس طريقته .. بلا تحفظات .. بلا تردد أو تعقل بل أن تعيش الحب بجنونه وتستجيب لنداء القلب والروح والجسد .
وكان قد رأى ذلك كثيراً وعرفه في الحياة الغربية التي عاش داخلها معظم رحلة حياته .. وكانت له صديقات في غربته , وعاش قصص حب قبل أ، يقع في حب مي .. لكن الحب كما عرفه ومارسه لم يكن هو ذلك الحب الذي عاشه مع مي من خلال رسائل تحمل مشاعر إنسانية استثنائية في كل شيء حتى في عواطفها !
ونما الحب في قلبيهما .. وتأجج ولم يكن هناك إلا الأوراق المتبادلة بينهما هي من مصر .. وهو من الولايات المتحدة الأمريكية .. طوفان من المشاعر المشتعلة بالحرمان .. المصطدمة دائماً بحائط المستحيل !
اللقاء الأول بينهما كان لقاءً على الورق .. بدأته مي برسالة من قارئة وأديبة إلى أديب كبير . كانت قد انتهت من قراءة قصة جبران خليل جبران " مرتا البانية" فكتبت إليه خطاباً تعرفه بنفسها أولاً ثم تعلق على هذه الرواية فماذا قالت له مي في هذا الخطاب :
أمضي مي بالعربية وهو اختصار اسمي , ويتكون من الحرفين الأول و الأخير من اسمي الحقيقي الذي هو : ماري . وأمضي " إيزيس كوبيا" بالفرنجية , غير أن لا هذا اسمي ولا ذاك , إني وحيدة والدي وإن تعددت ألقابي.
حدثته في هذا الخطاب الأول الذي أرسلته له في عام 1912 عن ديوانها الشعري الأول " أزاهير حلم" الذي كتبته بالفرنسية وكلمته عن حياتها في مصر التي استقرت فيها مع والديها وعن مقالاتها في الجرائد والمجلات العربية.
وتلقى جبران رسالة مي الأولى بفرح , وكتب إليها مشجعاً استمرار المراسلة بينهما , فأهداها روايته الجديدة " الأجنحة المتكسرة ".
لم تصدق مي نفسها وهي ترى مظروفاً مكتوباً عليه اسم " جبران خليل جبران " .. وتفتحه لتجد خطاباً منه بخط يده ونسخة من روايته موقعة على إهداء رقيق من الأديب الكبير إليها . طارت من الفرحة وجلست مع روايته .. بل غرقت بين سطورها تحاول أن تدخل في أعماق الحرف وثنايا الكلمة.. ربما وجدته وأمسكت بهذه الروح البعيدة التي تشعر بها قريبة جداً إلى قلبها وعقلها معاً .
انتهت الرواية , ولكن روايتها هي مع هذا الغريب القريب بدأت بخطاب منها تكتب فيه رأيها في الرواية بصراحة وتتوقف عند نقاط الاختلاف الرئيسية بينها وبين جبران " إننا لا نتفق في موضوع الزواج يا جبران , أنا احترم أفكارك , وأجلّ مبادئك لأنني أعرفك صادقاً في تعزيزها , مخلصاً في الدفاع عنها , وكلها ترمي إلى مقاصد شريفة, وأشاركك في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة , فالمرأة يجب أن تكون كالرجل مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشباب .. لا مكيفة حياتها في الغالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف , حتى إذا ما انتخبت شريكاً لها تقيدت بواجبات تلك الشركة .. أنت تسمي هذه " سلاسل ثقيلة حبكتها الأجيال" وأنا أقول إنها سلاسل ثقيلة , نعم , ولكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأة ما هي , فإن توصل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاح والتقاليد فلن يتوصل إلى كسر قيود الطبيعة لأن أحكامها فوق كل شيء .. عند الزواج تعد المرأة بالأمانة , فعندما تجتمع سراً برجل آخر تعد مذنبة إزاء المجتمع والواجب والعائلة .
يقف هذا الخلاف الفكري حاجزاً بينهما .. ورغم ذلك تظل الأديبة الفريدة بثقافاتها المتعددة وموهبتها الأصيلة ورؤيتها الناضجة بلونها المميز في الأسلوب .. ومذاق كتاباتها الخاص الذي يجمع بين تعبيرات الغرب ومفردات الشرق ووجدانياته. يظل هذا كله مركزاً للجذب الشديد بينهما . فهذا الذي بينهما ليس حباً بالمعنى البسيط للكلمة .. بل ان علاقتهما كانت علاقة مركبة .. يتداخل فيها القرب الوجداني مع المتعة الفكرية في الحوار المكتوب بينهما.. وتمتزج المشاعر النابضة في القلب بالإعجاب الصادر من العقل. إنها علاقة فريدة .. وبديعة .. ومعذبة بقدر روعتها !
تتوقف مي عن الكتابة إلى جبران عامين كاملين بعد أ، تسلل إليها الخوف من أن يتعلق به قلبها وتتحول الصداقة الفكرية إلى حب معذب ثم تعاود المراسلة وتحكي عما أصابها في رحلتها إلى لبنان في الصيف حيث كسرت يداها أثناء ركوبها الخيل هناك.
ويرد عليها جبران معاتباً : " حضرة الأديبة الفاضلة .. لقد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت دون خطاب منك , لكنه لم يخطر على بالي كونك شريرة .. لنعد إلى متابعة الحديث الذي بدأناه منذ عامين كيف أنت ؟ وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان؟).
ويجيبها جبران عن أسئلة كثيرة جاءت في خطابها إليه فيقول لها :
صحتي أشبه بحديث السكران , وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً في أعالي الجبال وشواطئ البحر , ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال , ومصارعة الأحلام ( تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي ).
وتقوم الحرب العالمية الأولى فتتوقف المراسلة بين مي وجبران من 1914 حتى 1919 .. ثم تبدأ مي في إرسال مقلات نشرت لها في جريدة المقتطف .. ويرد جبران عليها في خطاب أرسله مع بداية عام 1919 يقول فيه :
وجدت في مقالاتك سرباً من تلك الميول والمنازع التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت أحلامي . إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة إطلاعك , وملاحة ذوقك في الانتقاء والانتخاب .. وهذا ما يجعل مباحثك من أفضل ما جاء من نوعها في اللغة العربية , ولكن لي سؤال أستأذنك بطرحه : ألا يجيء يوم يا ترى تنصرف فيه مواهبك السامية عن البحث في ماضي الأيام إلى أسرار نفسك واختباراتها الخاصة؟ أليس الإبداع أبقى من البحث في المبدعين .. أنا كواحد من المعجبين بك أفضل أن أقرأ لك قصيدة في ابتسامة أبي الهول من أن أقرأ لك رسالة في تاريخ الفنون, فإنك تدلينني على شيء عمومي عقلي .. إني أشعر بأن الفن , والفن إظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل الروح , هو أحرى وأخلق بمواهبك النادرة في البحث ".
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
ويدفعها جبران إلى الكتابة الإبداعية التي يراها أبقى وأهم من الكتابة عن الفنون وعن المبدعين فيقول لها " ليس ما تقدم سوى شكل من أشكال الاستعطاف باسم الفن , فأنا أستعطفك لأنني أريد أن استميلك إلى تلك الحقول السحرية , حيث أخواتك اللواتي بنين سلماً من الذهب والعاج بين الأرض والسماء . أرجو أن تثقي بإعجابي وأن تتفضلي بقبول احترامي الفائق والله يحفظك المخلص جبران خليل جبران ".
ويصدر جبران خليل جبران كتابه الجديد " المجنون" .. وكالعادة تكون نسخة مي الموقعة بإهدائه واسمه على رأس قائمة النسخ المهداة . وفور وصوله إليها .. تقرأه ليس بعينيها وفكرها .. بل بكل نبضة في كيانها .. فكتاب جبران هو الجزء الوحيد المادي الذي يجسد هذا الإنسان الهلامي بالنسبة لها .. تقرأه بكل تركيز وغوص .. وترد في خطاب إلى جبران على ما جاء في هذا الكتاب :
لك أجد في كتابك ملاذاً سماوياً بل أثار في الرهبة والخوف أهذه هي كهوف روحك ؟
فيرد جبران عليها في خطاب : ماذا أقول عن كهوف روحي ؟ تلك الكهوف التي تخيفك , إني التجئ إليها عندما أتعب من سبل الناس الواسعة وحقولهم المزهرة وغاياتهم المتعرشة , إني أدخل كهوف روحي عندما لا أجد مكاناً آخر أسند إليه رأسي , ولو كان لبعض من أحبهم الشجاعة لدخول تلك الكهوف لما وجدوا فيها سوى رجل راكع على ركبتيه وهو يصلي .
وتعود " مي " إلى التوقف والتراجع عن الاستمرار في هذه العلاقة التي أصبحت تسيطر على وجدانها .. وتؤثر الإنسحاب من هذا الحب المستحيل .. تتوقف عن المراسلة لمدة ثلاثة أشهر حتى يصلها كتاب جبران " المواكب" مع رسالته التي تحمل سطوراً قليلة في 10 مايو 1919 يقول فيها : " والعمل كما تجدينه حلم لم يزل نصفه ضباباً والنصف الآخر يكاد يكون جسماً محسوساً , فإن استحسنت فيه شيئاً تحول إلى الحقيقة , وإن لم تستحسني عاد إلى مثل ما كان عليه.
وتكتب إليه معجبة بأشعاره في المواكب : " رائعة قصائدك في " المواكب" سأستظهر أبياتها ذات الصور الآخاذة . أنتم أهل الفن تبرزون البدائع بقوى أثيرية احتفظتكم عليها ملوك الجوزاء , فنأتي نحن الجمهور وليس لدينا ما نتفهمها بها سوى العجز ".
ويسافر جبران في أجازة طويلة .. ثم يعود ليجد ثلاث رسائل من مي في انتظاره فتحضنها عيناه من الفرحة .. ويغمره الحنين برؤية حروفها وكلماتها وخطها الدقيق المرسوم.. فيقرأها مرات ومرات .. يتنفس في رائحة الأرواق رائحة مي وأنفاسها العذبة.. ويجلس منفرداً ويكتب لها أجمل خطاب .. تنطق كل كلمة فيه بمعنى الحب والحرمان والافتقاد .. وتتدفق مشاعر الكاتب الفنان صادقة .. صارخة .. متوسلة بقاء الحبيب .. وعدم القطيعة أو البعاد .
10 / 7 / 1919 .. رسالة جبران إلى مي :
رجعت اليوم من سفري فوجدت رسائلك الثلاث بل هذه الثروة الجليلة قد وصلت , فانصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري مصغياً إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف , لأنني وجدت في رسالتك بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها , ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالنجوم ؟ وكيف أحول عيني عن شجرة زهرة إلى ظل من أغصانها ؟
إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى عتاب أو مناظرة , فأنا أقبل بكل ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا ألا ضيف متراً واحداً إلى هذه المسافة الشاسعة بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجميل والشوق إلى المنبع والعطش إلى الخالد , يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب , وعندي أ، فكرة تستطيع الوقوف أمام المجرد المطلق لا تزعجها كلمة جاءت في كتاب أو ملاحظة أتت في رسالة .
"ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها , فهي مثل نهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنحاً في وادي أحلامي, بل هي كالأوتار ..".
كلمات في رسالة جبران يطغى عليها الفرح لعودة المراسلات بينه وبين " مي" بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى .. يرسل إليها خطابه ومعه كتاب " المجنون" فترسل مي خطاباً عنيفاً تنتقد فيه كأديبة وناقدة إسلوب جبران الذي جاء على لسان بطل روايته .. وتنهي خطابها بجملة شديدة العنف " أهذا هو المجنون .. هو أنت المجنون ..".
ولا يغضب جبران من عنف مي في رسالتها .. فهو يفهم جيداً أن ما كتبته جاء من الأديبة وليس من الحبيبة الساذجة التي تمتدح الإنسان الذي تحبه بمناسبة وبدون مناسبة . فمي الأديبة والناقدة تحب بشكل مختلف .. وتحاور هذا الحبيب الأديب بلغة الفكر المشتركة بينهما وهي على ثقة إنه سيفهمها ولن يغضبه نقدها مهما كان قاسياً .. فهو يعلم جيداً أن تلك القسوة هي التعبير عن منتهى حبها له وحرصها على أن تخرج أعماله الإبداعية في أكمل صورة .
ويجيب جبران مبرراً : " المجنون ليس أنا بكليتي , واللذة التي أردت بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لدي من الأفكار والمنازع , واللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست باللهجة التي اتخدها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه وأحترمه . وإذا كان لا بد من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته فما عسى يخدمك عن اتخاذ فتى الغاب في كتابه " المواكب" لهذه الغاية بدلاً من " المجنون؟".
ويعيش الأديبان العاشقان مشاعر فرحة عودة الحبيب إلى الحبيب بعد فترة انقطاع طويلة سببتها الحرب العالمية الأولى وقطع سبل المواصلات بين مصر والعالم وكانت رسائل جبران في تلك الفترة من أروع الآثار الأدبية في أدب الرسائل .. فكتب يقول :
لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خري وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركباً إثر مركب . تلك الاشباح التي ما ثار البركان في أوربا حتى أنزوت محتجة بالسكوت , وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله !
هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي , هنالك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا , قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس .
فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم إتخذت بلادي بلاداً لها وقومي قوماً لها , هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كلما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ , وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة.
وتعود مي إلى التوقف عن المراسلة لفترة خوفاً من أن تغوص أكثر في أعماق تلك المشاعر المستحيلة .. وعندما تفتقد تلك الشحنات القادمة عبر المحيط .. رسائل جبران .. يتحرك داخلها الحنين إلى أوراقه وسطوره وكلماته الرائعة .. فتكتب له لتحاول استعادة هذه العلاقة الفكرية والأدبية بينها وبين جبران .. وأن تجمد الجانب الآخر .. الجانب الذي كانت تراه معذباً ومستحيلاً بالنسبة لتركيبتها الخاصة .. وظروفها العائلية كوحيدة والديها .. وخاصة ان ارتباطها بوالديها كان قوياً وعميقاً .
وتقول مي لجبران في خطاب كتبته لتوضح فيه كل ذلك .. وتحاول استبقائه في حياتها على الأقل في خانة : الصديق العزيز . تقول مي :
لما كنت أجلس للكتابة أنسى من وأين أنت , وكثيراً ما أنسى حتى أن هناك شخصاً , ان هناك رجلاً أخاطبه فأكلمك كما أكلم نفسي وأحياناً كانك رفيقة لي في المدرسة . أنما كانت تطفو تلك الحالة المعنوية عاطفة احترام خاص لا توجد عادة بين رجل وفتاة . أتكون المسافة وعدم التعاون الشخصي والبحار المنبسطة بيننا هي التي كانت تلبس حقيقة ذلك التراسل ثوب الخيال ؟ قد يكون .
غير أن مكانتك في اعتباري وتقديري كانت مصدر هذه الثقة التي ظهرت منذ نشأتها كأنها فطرية بديهية لم تنتظر الوقت لتقوى ولا التجربة لتثبت ؟ فوصلت الرسالة التي سبقت " النشيد الغنائي ". وكنت في الاسكندرية إزاء البحر الذي يجلب التأمل وينمي حب الاختلاء . ولم أشأ أن أجعل لمعنى النشيد أهمية خطيرة فكتبت أقول : أنا أردت أن تحصر مراسلاتنا في مواضيع فكرية . فقلت لك صريحاً أنني ألتمس في رسائلك الفائدة التي أطلبها في كل مكان ...
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
وتبرر مي موقفها لجبران فتقول :
أنت قيدتني ( مذنبة) في دفترك , وقمت تشكو لأني كلما " حدقت في شيء أخفيه وراء القناع , وكلما مددت يداً أثقبها بمسمار ".نعم فعلت ذلك متعمدة . تعمدت قطع تلك الأسلاك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة وفكرة وروح وروح وصرت أحرف المعاني وأمسخ الأسئلة وأضحك عند الكلمات التي تملأ العينين دموعاً . وهل كان لدي وسيلة أخرى لأحولك عن هذا الموضوع وأذكرك إني وحيدة أبواي ؟
قد لا يكون في العائلة الغربية إلا ولد فيقذفون به من إنكلترا إلى الهند , أو فتاة واحدة فترحل من فرنسا إلى الصين بلا جلبة ولا ضوضاء . ولكن أين نحن من هؤلاء , ونحن شرقيون .
تعمدت ذلك خصوصاً لأوفر على نفسي عذاباً هي في غنى عنه ولأتحايد كل كلمة تقربني من ذلك الموضوع الذي ملأ روحي شوكاً وعلقماً في هذه السنوات الماضية . ففهمت ما أريد وإنما في غير معناه الحقيقي , وفهمته على وجه لم أقصده . ثم سطت عليك الكبرياء . كبرياء الرجل , فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة نحن اللذين تكاتبنا أبداً كصديقين مفكرين . نسيت أن الموضوع الآخر جاء عرضاً . وما دام إنه لم يكن الأصل فقد كان له أن يتلاشى دون أن يؤثر في علاقاتنا الأدبية الفكرية .أما صدق القائلون إن صداقة الرجل والمرأة رابع المستحيلات . آلمني سكوتك من هذا القبيل , وأرهف انتباهي , فاعلمني انك لم تشاركني إرتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية لأنك لو كنت سعيداً بها مثلي , لما كنت رميت إلى أبعد منها .علمت إنني كنت وحدي حيث كنت أظننا اثنين .. وقدرتك أنك لم تحسب تلك سوى مقدمة وأنا كنت أقدرها لذاتها . وصار معنى سكوتك عندي " أما ذاك وأما لا شيء .. وأنت أدرى بأثر هذا في نفسي ".
ويتوقف جبران عن مراسلة مي .. ثم ينشغل في كتابه الجديد .. فينتاب مي القلق والخوف .. وتبدأ في لوم نفسها .. لقد كنت عنيفة مع جبران أكثر مما يجب ! لماذا أنبته كل هذا التأنيب .. وماذا فعل معي حتى يستحق كل هذا ؟! أنا المخطئة ولا بد أن أكتب إليه .. وأطلب منه العفو والغفران عما بدر مني في تلك الرسالة الشديدة اللهجة .
وعندما وصلت رسالة " مي" إلى جبران ابتسم.. وأمسك بالقلم على الفور ليرد على رسالتها :
لقد ابتسمت كثيراً منذ هذا الصباح . وها أنا أبتسم في أعماقي , وابتسم بكليتي , وابتسم طويلاً , وابتسم كأني لم أخلق إلا للابتسام .. أما العفو فلفظة هائلة أوقعتني متهيباً خجولاً . إن الروح النبيلة التي تتواضع إلى هذا الحد لهي أقرب إلى الملائكة من البشر ..
أما المسيء وحدي , وقد اسأت في سكوتي وفي قنوطي .. لذلك استعطفك أن تغفري لي ما فرط مني وأن تسامحيني .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
بعد هذا دخلت علاقة مي وجبران مرحلة أكثر انفتاحاً من ناحية مي . بدأت تعبر عن مشاعرها بحرية وتفك قليلاً من القيود القاسية التي كانت تضعها في يدها وهي تمسك بالقلم وتكتب إلى جبران .. وظهرت التلميحات الصريحة بالحب في هذه المرحلة ويبدو ذلك في بعض رسائلها إليه .. ورسائله إليها .. وهذه بعض منها :
رسالة من " مي" إلى جبران في نهاية عام 1923 تقول فيها :
" .. وبعد , ماذا أنت فاعل هذا المساء .. وأين تقضي سهرتك . أطلب إليك أن تشركني الليلة في كل عمل تعمله وأن تصحبني أنى ذهبت .
فإذا اعتليت السطوح لترسل النظر في العوالم التائهة في الانهاية فخذني معك إلى قلب الله وإذا مضيت إلى ناد أو سهرة أو اجتماع أو مسرح فخذني معك إلى قلب البشرية . وإذا بقيت مع نفسك عاكفاً على أفكارك وخواطرك خذني معك إلى وطني .."
وفي رسالة أخرى تصرح مي .. لجبران بحبها أخيراً .. مباشرة وبلا تلميحات .. فتكتب له :
ما معنى هذا الذي أكتبه؟؟ إني لا أعرف ماذا أعني به. ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيراً فأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر .أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير.ولكن القليل في الحب لا يرضيني . الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه! لا أدري. الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به. لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلاّ بعد أن تنسى.
حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحياناً لأني بها حرة كل هذه الحرية . أتذكر قول القدماء من الشرقيين : أنه خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب ؟ ها قد صح عليَّ ارتيابهم وصدق فيَّ سوء ظنهم .. لا تقل إن القديس توما يظهر هنا . وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب , بل هو شيء أبعد من الوراثة . ما هو؟
قل لي أنت ما هو هذا؟ وقل لي ماإذا كنت على ضلال أو على هدى . فإني اثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول . وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة , فإن قلبي يسير إليك وخير ما في يظل حائماً حواليك يحرسك ويحنو عليك .
غابت الشمس وراء الأفق . ومن خلال السحب العجيبة والأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة . نجمة واحدة هي الزهرة , إلهة الحب . أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويشوقون ؟ ربما وجد فيها من هي مثلي , لها واحد جبران , حلو بعيد بعيد , هو القريب القريب. تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء , وتعلم أن الظلام يخلف الشفق, وأن النور يتبع الظلام , وأن الليل سيخلف النهار , والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة , قبل أن ترى الذي تحبه , فتتسرب إليها كل وحشة الليل فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد : جبران !.
بعد هذا التصريح بالحب بدأت الخطابات تعكس الانعتاق من أسر الخوف عند مي .. ففي أحد خطاباتها إليه في عام 1925 تحكي له كيف أقنعها مصفف الشعر بأن تقص شعرها القصة الجديدة في ذلك الوقت " ألاجرسون " . فكتبت تقول :
لقد قصصت شعري . وعندما ترى من صديقاتك بعد هذا اليوم يا جبران من هن في هذا الزي يمكنك أن تذكرني وأن تقول لهن في سرك إنك تعرف من تشبههن . كنت راغبة في التخلص من هذه الذوائب التي يقولون أن لطولها يداً في قصر عقل المرأة , وهو محض افتراء طبعاً . ولكن عندما رأيت شعري بحلكته وتموجه الجميل وعقاربه الجريئة مطروحاً أمامي تداعبه يد المزين شعرت بأسف على هذه الخسارة , غير أن المزين طيب خاطري بعبارات تكسرت فيها الكلمات الالمانية والايطالية , وهو روماني على ما يقول , فهل كان في وسعي أن أضحك ؟ فمضى يصف لي جمال الشعر القصير ومنافعه ومميزاته لا سيما وأنه , على ما زعم المزين القناع , يليق لي كثيراً .
وسألته إلى كم امرأة يقول كل هذه الكلمات , فأجاب إنني فيلسوفة وأين تلك الفلسفة والفتاة المذكورة تحدث بهذا الحديث عن شعر قاتم هو شعر البداوة والسمرة تحدث فناناً شاعراً شغف بشعر الحضارة والشقرة . فهو لا يروقه إلا الشعر الذهبي . ولا يحتمل في هذا الوجود إلا الرؤوس ذات الشعر الذهبي .
وهي رسالة تظهر فيها مشاعر المرأة الحريصة على أن تتجمل وتتزين من أجل الرجل الذي تحبه .. كما تلمس مي بأسلوبها الساخر جبران وكلماتها الموحية بالغيرة الأنثوية المحببة من بنات امريكا ذوات الشعر الذهبي (!).
ويكتب لها جبران :
"يا ماري...كنت في السادس من هذا الشهر( من أول عام 1925 ) أفكر فيك كل دقيقة بل كل لحظة، وكنت أترجم كل ما يقوله لي القوم إلى لغة ماري وجبران , وتلك لغة لا يفهمها من سكان هذا العالم سوى ماري وجبران ... وأنت تعلمين طبعاً أن كل يوم من أيام السنة هو يوم مولد كل واحد منا."
وفي خطاب آخر يكتب جبران " لمي" :
أفكر فيك يا مي كل يوم وكل ليلة , أفكر فيك دائماً وفي كل فكر شيء من اللذة , وشيء من الألم , والغريب أنني ما فكرت فيك يا "مريم" إلا وقلت في سري : تعالي واسكبي جميع همومك هنا , هنا على صدري .
وفي بعض الأحيان أناديك بأسماء لا يعرف معناها غير الآباء المحبين والأمهات الحنونات , هأنذا أضع قبلة في راحة يمينك , وقبلة ثانية في راحة شمالك طالباً من الله أن يحرسك ويباركك , ويملأ قلبك بأنواره , وان يبقيك أحب الناس إلي .
وفي خطاب آخر إليها يكتب جبران :
أنت ابنة صغيرة في السابعة تضحك في نور الشمس , وتركض وراء الفراشة وتجني الأزهار , وتقفز فوق السواقي , وليس في الحياة شيء ألذ وأطيب من الركض خلف الصغيرة الحلوة والقبض عليها , ثم حملها على منكبي ثم على كتفي ثم الرجوع بها إلى البيت لأقص عليها الحكايات العجيبة الغريبة , حتى تكتحل أجفانها بالنعاس وتنام نوماً هادئاً سماوياً .
ويكتب جبران إلى مي :
ما قرأت لك قطعة إلا وشعرت بنمو وتمدد في قلبي , وما قرأتها ثانية إلا وتحولت عمومياتها إلى شيء شخصي , فأرى ما لم يره سواي وأقرأ بين السطور سطوراً لم تكتب إلا لي , أنت يا مي كنز من كنوز الدنيا وأكثر من ذلك .
ما اجتمعنا بين سواد الحبر وبياض الورق إلا رأيتك , ورأيتني أرغب الناس في الخصام والمبارزة العقلية بالقياسات المحدودة والنتائج المحدودة .
ويكتب لها في رسالة مليئة بالشوق إليها والفرح بوصول رسالتها إليه بعد طول انتظار :
حلت رسالتك ألف عقدة في حبل روحي , حولت الانتظار وهو صحراء إلى حدائق وبساتين . لذلك أسير اليوم بجانب خيال أجمل وأظهر لبصيرتي من حقيقة الناس كافة , أسير وفي يدي يد حريرية الملابس , ولكنها قوية وذات إرادة خاصة , ولينة الأصابع لكنها تستطيع رفع الأثقال وتكسير القيود .
وتتوقف رسائل " جبران" كثيراً لأول مرة منذ سنوات وينتاب القلق مي فتكتب إليه معبرة عن هذا الافتقاد الشديد إليه . فتقول :
صديقي يا جبران , لقد توزع في هذا المساء بريد أوروبا وأمريكا , وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع , وقد فشل أملي بأن تصلني فيه كلمة منك . نعم إني تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديسة حنة الجميل , ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل .
لا أريد أن تكتب إليَّ إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا , ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزع البريد على صناديق يفرغ فيها جعبته ! أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل , حتى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح , فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه .
ولتحمل إليك, رقعتي هذه عواطفي فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا , وتؤاسيك إن كنت في حاجة إلى المؤاساة, ولتقوك إذا كنت عاكفا على عمل ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
وتسافر مي إلى روما تحاول أن تنسى أوجاعها .. لكنها لا تجد السكينة ولا السلوى فتكتب مقالة عن ينابيع روما تقول فيها :
كم طلب عطشي الارتواء من المثول لديك يا عيون روما وكم سألت خريرك أن ينسيني نفسي الجريحة !
نسيت نفسي , يا للرغد ويا للهناء ! لكني أعود فأذكرها ويشتد عطشي الملهب العميق , لحظة ليس غير ! رجعت بعدها إلى حالي فما ارتويت بقطرة إلا كانت لهيباً في الأوام الذي لا يرتوي , وما فزت بفهم جديد إلا كانت الخاطرة المستحدثة وقوداً لعذاب فكري , وما نعمت بنفحة عطف إلى كانت زكوة لعاطفة الحنان التي لا تشبع فيّ , ولا تكتفي !
وتصل رسالة أخيراً من جبران .. يخبرها فيه أنه كان مريضاً .. وهو لا يحب الشكوى , ولا يريد أن يقلقها عليه .. فيقول في خطابه :
أنا أستصعب جداً الشكوى من علة تلم بي فإذا مرضت رغبت في أمر واحد وهو الاختفاء عن عيون الناس حتى عن عيون الذين أحبهم ويحبونني , وفي شرعي أن أحسن دواء للداء هو الانفراد التام .
وقد وجدت في المرض لذة تختلف عن كل لذة نفسية , تختلف بتأثيرها عن كل لذة أخرى , بل وجدت نوعاً من الطمأنينة يكاد يحبب إليّ الاعتلال , إن المريض لفي مأمن من منازع وأغراض الناس والوعود , والمواعيد , والمخالطة والمنازعة والكلام الكثير , ورنين جرس التليفون .
وزادت هذه الرسالة من قلق مي على " جبران" فقد شعرت من سطوره أنه يريد تطمينها عليه والتخفيف من حقيقة مرضه حتى لا يزعجها . ومع مرض جبران بدأت معالم النهاية المأساوية لحياة مي تتشكل .. مع توالي الأحداث الأليمة .
ففي عام 1929 مات والدها .. وفقدت السند الحقيقي لها في الحياة .. واهتزت مي بشدة لهذا الحدث.. وشاركها جبران ولكن عن بعد كعادته ! فأرسل لها هذا الخطاب :
عرفت اليوم أن والدك قد ذهب إلى ما وراء الأفق الذهبي , وأنه قد بلغ المحجة التي يقصدها الناس كلهم , فماذا يا ترى أقول لك ؟
أنت يا ماري أبعد فكراً وسمعاً من تلك الألفاظ التي يقولها الناس معزين مواسين , ولكن في قلبي الرغبة والشوق إلى الوقوف أمامك وفي قلبي الحنين إلى ضم يدك صامتاً شاعراً بكل ما يغمر روحك الحلوة عن قدر ما يستطيع الغريب أن يشعر بما تشعرين . والله يباركك يا ماري , والله يحرسك كل يوم وكل ليلة . والله يحرسك لصديقك : جبران .
كانت مي تقرأ خطابه بينما أعماق نفسها تريد أن تصرخ وتقول : لقد مات أبي يا جبران .. وأمي مريضة ولم يبق لي سواك سنداً في الحياة . إنني أحتاجك يا جبران .. فلماذا لا تأتي وتنقذني من هذا الجحيم ؟!
وتبدأ نغمة الرحيل تعلو في كلمات جبران في خطاباته إلى مي .. فيكتب إليها :
أتعلمين يا مي أني ما فكرت بالانصراف الذي يسميه الناس موتاً إلا وجدت في التفكير فيه لذة غريبة , وشعرت بشوق هائل إلى الرحيل ؟.
وكانت رسالته الأخيرة إليها قبل وفاته بأسيوعين واسماها " الشعلة الزرقاء " .. كتبها إليها في مارس 1931 وبها بعض من أبياته كتبها قبل الرحيل :
شاخت الروح بجسمي وغدت *** لا ترى عني غير خيالات السنين
فإذا الأميال في صدري *** فبعكاز اصطباري تستعين
والتوت مني الأماني وانحنت *** قبل أن أبلغ حد الأربعين
تلك حالي : فإذا قالت رحيل *** ما عسى حل به ؟ قولوا الجنون
وإذا قالت أيشفى ويزول *** ما به ؟ قولوا ستشفيه المنون
وبموت جبران أسدل الستار عن قصة حب غريبة وفريدة في التراث العربي . قصة لم نسمع مثلها .. ولم يتخيل إنسان أنها حقيقية حدثت بالفعل .. وعاشت لأكثر من تسعة عشر سنة كلها على الورق !! خطابات تحمل نبضات تختلج بالحب .. وتتأجج بالمشاعر المحرومة والآمال المحلقة . وكلمات تتوجع لوحدة أصحابها وتنطق بأحاسيس تصطدم دائماً بحاجز المستحيل .
وبموت الحبيب الوحيد في حياة مي تفجرت جراحها كلها دفعة واحدة .. القديمة والحديثة .. وكان المشهد الأخير بالغ القسوة في حياة الأديبة .. النابغة مي !!
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل السابع
ليالي العصفورية !
الفصل الأخير في حياة مي كان حافلاً بالمواجع والمفاجآت ! بدأ بفقد الأحباب واحداً تلو الآخر .. والدها عام 1929 . جبران عام 1931 . ثم والدتها عام 1932 .
وعاشت مي صقيع الوحدة .. وبرودة هذا الفراغ الهائل الذي تركه لها من كانوا السند الحقيقي لها في الدنيا . وحاولت مي أن تسكب أحزانها على أوراقها وبين كتبها .. فلم يشفها ذلك من آلام الفقد الرهيب لكل أحبابها دفعة واحدة .
فسافرت في عام 1932 إلى انجلترا أملاً في أن تغيير المكان والجو الذي تعيش فيه ربما يخفف قليلاً من آلامها .. لكن حتى السفر لم يكن الدواء .. فقد عادت إلى مصر ثم سافرت مرة ثانية إلى إيطاليا لتتابع محاضرات في جامعة بروجية عن آثار اللغة الإيطالية .. ثم عادت إلى مصر .. وبعدها بقليل سافرت مرة أخرى إلى روما ثم عادت إلى مصر حيث استسلمت لأحزانها .. ورفعت الراية البيضاء لتعلن أنها في حالة نفسية صعبة .. وأنها في حاجة إلى من يقف جانبها ويسندها حتى تتماسك من جديد .
وجلست مي المليئة بالشفافية وحسن النية بالبشر تكتب إلى ابن عمها الدكتور جوزيف في لبنان وتخبره بحالتها ..
وقالت مي في خطابها للدكتور جوزيف :
عزيزي جوزيف ...
منذ مدة طويلة لم أعد أكتب . وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمد حركة يدي ووثبة الفكر لدي .
إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف , ولا أدري السبب , فأنا أكثر من مريضة , وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فيّ وحولي . أني لم أتألم أبداً في حياتي كما أتألم اليوم , ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله . وددت لو علمت السبب على الأقل . ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه : لا شيء , إنه وهم شعري تمكن مني .
لا , لا , لا , يا جوزيف . إن هناك أمراً يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم , بل في كل دقيقة. لقد تراكمت عليّ المصائب في السنوات الأخيرة وانقضَّت عليَّ وحدتي الرهيبة – التي هي معنوية أكثر منها جسدية – فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذاباً كهذا . وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية , فكنت أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة لعلي أنسى فراغ مسكني , أنسى غصة نفسي , بل أنسى كل ذاتي .
إنه ليدهشني حقاً كيف أني استطعت أن أكتب هذه الرقيمة . ولعل الفضل في هذا يعود جزئياً إلى اللفائف التي أدخنها ليل نهار – أنا التي لا عهد لي بذلك – أدخلتها لتضعف قلبي , هذا القلب السليم المتين الذي لا يقاوم ...
واسلم لابنة عمك
ماري
وتعطي مي – بكل أسف المفتاح لابن عمها ليفتح عليها نار جهنم بهذا الخطاب الذي كتبته في لحظة ضعف تستنجد بأقرب من بقي لها في الدنيا .. على قيد الحياة .
يعرف الدكتور – ابن العم – بأن مي تنوي التبرع بمكتبتها النفيسة إلى الأمة المصرية بعد وفاتها عرفاناً منها بفضل مصر عليها .. كما أرادت أن تهدي النسخ المزدوجة من كل كتاب إلى الأمة اللبنانية .. وبدأت فعلاً تبحث عن المحامين لوضع هذه الوصية في سياق قانوني . فما كان من الأقارب الذين تحولوا في هذه الحالة إلى "عقارب" إلا أن أرسلوا إلى " مي" من يجمع المعلومات عنها .. وعن وضعها المالي وأملاكها في مصر !
ثم جاءها ابن عمها من لبنان بعد وفاة زوجته التي كانت مريضة .. وطلب منها أن تصحبه إلى لبنان لتغير جو الكآبة الذي تعيش فيه .. ووعدها بأن الدفء والناس الذين يحبونها في لبنان سيعوضونها عن فقد الأحباب ومشاعر الوحدة التي تعيشها في مصر بعد الحياة المليئة التي كانت تعيشها كنجمة في سماء الأدب .
وتحكي مي بنفسها ما حدث لأمين الريحاني أحد أصدقائها المقربين .. الذين وقفوا معها في هذه المحنة الكبرى في حياتها .. فتقول :
كان ابن عمي يحيك لي الدسائس وينصب لي الفخ وهو يظهر بمظهر الصديق الوفي والأخ البار . يراسلني من حين إلى حين فأرد على رسائله بسرور . ولما سألته الحضور إلى مصر . رد عليّ بخطاب كله عطف واهتمام ووعدني بالحضور عند تحسن صحة زوجته . على أن زوجته توفيت بعد قليل ولم يطل حتى جاء مصر . أليساعدني ويخفف من مصيبتي ؟ هذا ما يزعمه . على أن الحقيقة هي أنه هرع ليستكشف أعمالي وماليتي ويقف على كل شيء في حياتي . وكان أنه خاطبني برقته المألوفة في تعيينه وكيلاً عني ليخدمني ويطمئن بالي .
فأجبت بأن لا أملاك لي في مصر وأن أعمالي المالية منظمة تنظيماً لا يحوجني إلى مساعدة أحد . فألح وقال : فكري في هذا إكراماً لي . قلت : سأفعل وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى التفكير .
وبعد هذا الكلام بيوم واحد جاءني مع رجلين من انسبائه كانا يلازمانه في بيتي وفي الخارج طول مدة إقامته بمصر يتبعهم باشكاتب محكمة عابدين ووكيله على ما قيل لي . وفتح الباشكاتب دفتراً كبيراً جداً وسحب الدكتور جوزيف من جيبه قلمه الحبر وقدمه لي طالباً أن أوقع في الدفتر . وأي تأثير سيطر علي في تلك الساعة ؟ كيف لم أعجب لمجيء الباشكاتب دون أن استدعيه وكيف لم أرفض التوقيع ؟ لست أدري .
بحركة ميكانيكية تناولت القلم ورفعت نظري إلى الباشكاتب استفهم عن المكان من الدفتر الذي اكتب فيه اسمي . فنظر إلي نظرة طويلة كأنما هو عالم بما سيجره علي هذا التوقيع من المصائب . ثم أشار إلى مكانين اثنين فوقعت مكرراً , مي زيادة , وتحته ماري جبران . وأخذوا بعدئذ يعدون الحقائب للسفر وأنا أعلن بثبات إني لا أترك البيت ولا أغادر مصر .
فقال الدكتور أن البيت يبقى على ما هو وكل شيء فيه في مكانه ريثما أعود من لبنان بعد شهرين. فإنما ما أحتاج إليه على قوله هو تغيير الهواء وتغيير المحيط .
وفي لبنان لا أكون وحدي , بل يحيط بي أعضاء عائلتي الذين سينسيني حنانهم ومحبتهم إني وحيدة وإني حزينة . وأقسم الدكتور بأولاده وبشرفه أن يردني إلى مصر حتى بعد أسبوع واحد فيما لو صارحته برغبتي في ذلك .
وتكمل مي من قصتها الباكية .. بعد سنوات المجد والشهرة .. فتقول :
أخرجوني من بيتي قبل الساعة الرابعة بعد الظهر وأوصلوني إلى مكاني في القطار وغابوا عني فبقيت جالسة حتى عاد الدكتور والرجلان الآخران . وعندئذ قام القطار إذ نحن في منتصف الساعة السادسة . ومنذ الأسبوع الأول في بيروت ذكرت الدكتور بوعده وقلت إني أرغب في الرجوع إلى بيتي . فطيب خاطري .. وأبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني وأنا أطالبه بالعودة . حتى استكمل برنامجه في أمري , فأرسلني إلى " العصفورية".
كيف حدث هذا ؟ كيف وضعت الأديبة العربية النابغة في مستشفى الأمراض العقلية بلبنان .. وهي واحدة من أندر العقول العربية وأبدعها .. تعالوا نسمع من مي الحكاية !
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
جاء الطبيب المعالج في " العصفورية" مستشفى الأمراض العقلية – تصحبه ممرضة - وكانت تلك في تاريخ العصفورية أول مرة خرج فيها طبيب إلى بيت مريض ليحمله إلى " المارستان" . وعندئذ حنان أقاربي ووفائهم وحرصهم على صحتي وكرامتي , كلها ظهرت في أجلى المظاهر إذ كتفني طبيب العصفورية بجاكت المجانين تساعده الممرضة ونفحني بإبرة مورفين بساقي وأنا أصيح من فرط الوجع وأستغيث .
واه يا بيروت ؟ كيف احتملت أن أجتاز شوارعك في ذلك الموكب المشين الأليم ؟ كيف احتملت الدموع التي سكبتها في تلك السيارة وأنا بين ذلك الطبيب وتلك الممرضة أشعر بوحدة رهيبة في الدنيا وأرى القدر المروع المعد لي دون أن أدري لماذا ؟
بحجة التغذية وباسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل وأموت شيئاً فشيئاً . لست أدري إذا ما كان الموت السريع هيناً . أما الموت البطيء طيلة عشرة شهور وأسبوع من التغذية القهرية تارة من الفم بتقطيع لحمة الأسنان وطوراً من الأنف بواسطة التبريح ليصب ما يصب من الداخل نزولاً إلى الحلق فالصدر . فذلك موت لا أظن أن إنساناً يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه . ومع ذلك فكان أقاربي في زيارتهم النادرة يستمعون إليّ بسرور وأنا أصف نكالي وشقائي راجية منهم عبثاً أن يرحموني ويخرجوني من العصفورية .
وأهملوني هنالك لا سلوى ولا تعزية . وكان الدكتور يزعم إني سأموت جوعاً إذا ما أخرجني من العصفورية إلا أنه اضطر إلى نقلي إلى مستشفى ربيز فوصلته شبحاً . فإذا بهم هنا يستعملون في تغذيتي القهرية الملقط الحديدي الخاص بالعمليات الجراحية مما لا تفلح معه مقاومة . نقلوني إلى هذا المستشفى أقيم أياماً ريثما يعد لي منزل أسكنه لأنه ليس معقولاً أن يقطن الإنسان بالمستشفى طول حياته ولأن قلبي يحترق على الإقامة في منزل لي كسائر الناس , على أن البيت المزعوم لم يعد لي في عشرة شهور . كما جاءوا بي أصطاف في لبنان شهرين وما زلت أصطاف في قلب الشتاء وبعد اثنين وعشرين شهراً .
وجاء الفرج أخيراً بعد عامين من أقسى العذاب . جاء الفرج على يد الصحافة والصحفيين من أبناء مهنتها .. فقد كانت قضية إدخال مي زيادة مستشفى الأمراض العقلية " العصفورية" هي حديث الصحف والموضوع الذي يحتل مساحة كبيرة من اهتمام القراء في بيروت والقاهرة وأيضاً في بلاد المهجر . وشنت جريدة " المكشوف" حملة كبيرة حول هذا الموضوع .. وتابعت قصة مي خطوة بخطوة حتى استطاعت في عام 1938 أن تكشف المؤامرة ونشرت في الصفحة الأولى :
وأخيراً استطاع " المكشوف" أن يلفت أنظار الأدباء ورجال القضاء إلى المؤامرة التي وقعت الأديبة مي في شباكها , بفضل حملة قام بها في هذا السبيل دامت أربعة أشهر .
وقد لاقى "المكشوف " من أجل الكشف عن هذه الدسيسة ما تلاقيه كل صحيفة حرة من تهديد ووعيد . فقد اتصل أمر الدسيسة بالنيابة العامة عن طريق مكتب الاستاذين حبيب أبو شهلا وبهيج تقي الدين وكيلي الآنسة مي فأجرت تحقيقاً في الحجر على حرية الأديبة الكبيرة وأمرت بنقلها إلى المستشفى الأمريكي حيث تعيش في جو مشبع بالعطف , بعيد عن كل ضغط , وحيث زارتها لجنة من الأطباء لتقرير مصيرها . فكان تقريرهم في غير مصلحة المغرضين .
وقد لفتت الضجة التي أثرناها حول مأساة مي الصحف اليومية الكبرى , فراحت تتحدث عن تطورها حديثاً مما سيكون له أثره الطيب في إنقاذ مي من محنتها ولو أنه جاء متأخراً .
وفي مقدمة هذه الصحف الزميلتان " الحديث" و " صوت الأحرار" اللتان ننقل عنهما بعض ما نشرناه في هذا الصدد :
حديث الكاتب الصحفي سعيد فريحة .. ونشر في جريدة " الحديث" ببيروت .. وهذا نصه .
بدأت مي تتكلم بلغة فصحى ممزوجة باللهجة المصرية , وبطلاقة لسان مدهشة . وأوقع شيء في النفس كان صوتها العذب , وإخراجها الكلمات هادئة بنبرات موسيقية حزينة .
قالت : أردتم أن أكلمكم بصراحة عن سبب كرهي لرجال القانون , نعم أنا أكرههم لأني لم أغادر مصر , ولم يؤت بي إلى لبنان , ولم أدخل إلى العصفورية , إلا بفضل القانون ورجال القانون , بل أنا صرت مجنونة قانوناً.
وأما الأطباء هؤلاء الذين يؤتمنون على أرواح الناس , هؤلاء الذين ينحنون على أسرة السماء , هؤلاء الذين يقسمون اليمين على السير في طريق الشرف والكرامة والاستقامة , وعلى تخفيف محن الناس , وويلات الإنسانية , هؤلاء الأطباء أكرههم لأني صرت مجنونة طبياً ووقعت في شرك المؤامرة بفضل الطب والأطباء .
بقي الصحافيون , وكرهي لهؤلاء أشد , يوم نشروا خبر جنوني , وأوجدوا عند الناس في الشرق وفي الغرب فكرة بل اعتقاداً بأن مي مجذوبة , ولو أن إساءتهم لي اقتصرت على ذلك لهان الأمر , ولكن هناك ما هو أمر وأفظع. أنا صحافية , وبنت صحافي , ولقد كان على الصحافيين في لبنان , إن لم يكن إكراماً لي بل إكراماً لوالدي , أن يبدوا شيئاً من الواجب نحو زميلهم , ابنة زميلهم , أن يسألوا عنها أو يقوموا بزيارتها عندما سمعوا بخبر عنها لمعرفة ما في هذا الخبر من الصحة .
إنكم معشر الصحافيين تتحرون الحقيقة في كل مكان . إنكم تهتمون بالرجال وما يقولون النساء وما يلبسن , إنكم تبحثون أحياناً عن أتفه المواضيع وتخرجونها إلى قرائكم , أنتم يا زملائي وزملاء والدي لم يوجد أحد يسأل عن " مي" ويتحرى حقيقة جنونها , فلا يوجد واحد بينكم يفكر بزيارة هذه الأديبة الصحافية , النابغة التي تخنق الأطفال وتكسر الحديد !!
وقد تقولون إن هذا الذي أشيع عني كان كحقيقة راهنة عندكم , فلم تشأوا زيارتي حتى لا تحزنوا على مصيري .. قد يكون ذلك صحيحاً . ولكن هذا الاعتقاد وتلك " الشفقة" لا ينبغي أن تضع حجاباً من الإهمال والنسيان بين الصحافيين والأدباء وبين زميلتهم " مي" .
إن " مي " لا أهل لها . إن أبي وأمي وأهلي هم الصحافيون هم الأدباء , هم رجال القلم , أفما كان يجدر بكم أن تحيطوني ببعض العناية عسى أن تخففوا عني وطأة الجنون أنا التي أكسر الحديد , وأخنق الأطفال .
أين رجال الأدب في لبنان ؟ أين رجال القانون ؟ أين الجمعيات النسائية ؟ أين نصيرات المرأة ؟ ألم يوجد بينهن واحدة تدافع عني أنا التي قضيت السنين الطوال أدافع عن حق المرأة , ووقفت قلمي على خدمة بنات جنسي , ورفع مستواهن ورد الظلم عنهن ؟
أجل , أين هؤلاء وأولئك ؟ بل أين لبنان , لبنان الذي طويت ضلوعي على حبه , لبنان الذي تغنيت في الجرائد والكتب والمجلات ومن فوق المنابر , بجماله , بجباله , ببنيته , لبنان الذي ما حلت به محنة إلا انهمر الدمع من عيني , لبنان هذا لم يوجد فيه واحد يبكي على محنتي التي انطوت على محن كثيرة .
تلك هي مكافأة لبنان لابنته مي : إهمال مفجع , وتغاض مخجل عن أحط مؤامرة جاءت بي من مصر , وألقتني مدة سبعة شهور في العصفورية أتفرج في النهار على مواكب النساء العاريات , أسمع ألفاظاً ما كنت أعلم بأنها موجودة وإن في البشر من يتلفظ بها , وأسمع في الليل عواء الذئاب وأصوات ابن آوى . أسمع وأرى كل هذا وليس هناك من يسمع صوتي , أو يرى محنتي فيبادر إلى إنقاذي .
سبعة أشهر قضيتها في " العصفورية" في لبنان على هذه الحال , وفي تلك الغمرة من الألم واليأس والعذاب , دون أن يهتز عرق بالشفقة أو لسان بالسؤال .. ولهذا اسمحوا لي أن أقول بكل ألم , وبكل أسف وخجل أيضاً إني كنت أردد , وأنا على تلك الحال , في كل يوم وفي كل ساعة : لعنة الله على لبنان ..
وهكذا بكت " مي" بكاء ممزوجاً بالألم والحقد ثم مدت يدها إلى تحت الوسادة فأخرجت منديلاً ومسحت به دموعها , وبعد أن سكنت آلامها قليلاً استأنفت الكلام فقالت :
- نعم لقد كنت ألعن وطني , وعندما يلعن المرء من يحب يكون الألم واليأس قد يرحا به , ولكن هل يكفر لبنان عن إساءته إلى " مي" ؟ وهل يعيد إلى ضلوعها أقدس ما كانت تنطوي عليه وهو حبها للبنان ؟!
أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي ودواتي وكتبي ودراساتي , وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى , وهذه الحياة " الايدياليزم" التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس ومحاولات , أجل كنت أجهل الدسيسة , وتلك النعومة التي يطهر بها بعض (؟) الناس ويخبئون السم القتال , ولو كنت على معرفة بهذا النوع من أخلاق الناس لكنت قاومت الدسيسة بمثلها , وقاومت المحاولة بمحاولة , ولما كان قادني حسن ظني إلى الاستسلام , والاطمئنان , أو بالأصح إلى هذه المحنة التي لا يمكن أن يكون أن يكون التاريخ الإنساني طوى على أوجع وأفظع منها .
ويكتب سامي الكيالي في مجلة " الحديث" صورة ناطقة لـ "مي" بعد خروجها من مستشفى " ربيز" لتقيم في منزل برأس بيروت حيث التف حولها بعض من صمد من الأصدقاء القدامى وقلة من أصدقاء كسبتهم في محنتها ومن هؤلاء الأصدقاء : أمين الريحاني والنحات ويوسف الحويك والسيد حسين إدريس والسيد الخوري والشيخ فؤاد حبيش والأميرتان سامية وزهراء الجزائري والدكتور منصور فهمي ولطفي حيدر وفليكس فارس وسامي الكيالي ..
وكتب سامي الكيالي .. يقول :
- ولولا هذا الشحوب البادي في وجهها , وهذا الشيب الذي دب في شعرها , وهذا الجرس الحزين الذي ينساب من ثنايا حديثها لما تغيرت عليّ صورة " مي" الشاعرة الأديبة الموسيقية .. وهي في صالونها الأدبي في مصر تستقبل زوارها من الساسة والعظماء والأدباء .
لقد ضمت جلستنا هذه الأديب والمحامي والفنان والطبيب ودارت شتى المناقشات في أدق المسائل وأعمقها في الأدب والتاريخ , في الحياة والإنسان , وقد تباينت الآراء , فكانت " مي" -علم الله – هي التي تقرب بين وجهات النظر وتقول كلمتها الهادئة المتزنة بعد أن تأتي بالمثل تلو المثل , وبالفكرة تلو الفكرة , فمن قصة أدبية إلى ظاهرة اجتماعية , إلى رأي بهذا يناقض ذاك إلى أن تهدأ ثورة الجدل .
نعم كانت في هذه الجلسة أشبه بالمعلمة الكبرى تهدي تلاميذها إلى مواطن الصواب بإسلوب أخاذ وآراء منسجمة وبيان غاية في الدقة والروعة .. صفاء ذهن وزكاوة نفس وحس عميق وإشراقة تفكير ودعابة ناعمة حيث تدعو الدعابة , وجد حيث يدعو الجد , هذه هي "مي" التي اختلف الناس في يقظة وعيها وصحة عقلها وانتهى أمرها إلى المحاكم !
ولولا هذه الجلسة الممتعة لتركت بيروت وأنا أشد الناس إيماناً بجنون "مي" !
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل الثامن
المشهد الأخير في
حياة "مي"
ويجيء أصعب موقف في حياة مي !
تقف في " ست هول" بالجامعة الأمريكية في بيروت لتلقي محاضرة أمام جمهور غفير من قرائها الذين جاءوا بدافع الفضول , يريدون معرفة الحقيقة بأنفسهم بعد كل ما قيل وكتب عن مأساة مي وجنونها .
البعض جاء وهو على يقين من جنونها .. والبعض كان بين الشك واليقين .. والقليل جداً كان من المؤمنين بكذب هذه الدسيسة.
أما هي .. فعليها أن تستجمع كل قدراتها على الإقناع والخطابة التي تميزت بها وطالما أبدعت .. كان عليها أن تقنع جمهور جاء مليئاً بالشك في جنونها .. بأنها ليست كذلك .. وأن تدفع عن نفسها كل الأقاويل الباطلة التي حاصرتها .
وقفت "مي" بشجاعة ظاهرية وقلب كسير تتحدث في 22 مارس 1938 إلى جمهور كبير جاء ليستمع إليها .. ووسط هذا الجمع الغفير كان يجلس راعي النائب العام .. الذي جاء لهدف آخر تماماً .. فقد كان يصغي باهتمام , ويراقب كل ما يحدث استكمالاً لتحقيقاته في القضية المعروضة أمام المحكمة بالحجر على "مي" !
ولم تكد مي تنتهي من محاضرتها التي سحرت الجمهور انبهاراً بقدراتها التحليلية , وثقافتها الطاغية , وملكاتها الناطقة في ربط الأفكار التي تطرحها بعضها ببعض ببساطة , ورؤيتها الحكيمة السابقة لعصرها . حتى ضجت القاعة بالتصفيق المتواصل الذي يفيض بالحماس والحب والتعاطف مع الأديبة والمفكرة المظلومة !
انتصرت مي في هذه الجولة الصعبة .. ولكن الشروخ التي أصابت نفسها وقلبها ازدادت عمقاً . والإحساس بالأسى سيطر عليها وتمكن منها .
واحتلت التعليقات والمقالات الصحفية التي تتحدث عن "مي" ..وعن المحاضرة التاريخية التي أثبتت كذب كل ما قيل عن جنون مي مساحات واسعة في كل الجرائد المصرية واللبنانية .
ثم تحولت إلى مستند قانوني قدمه ممثل النيابة العامة في قضية الحجر على مي .. وكان حديث العدل والحق مؤثراً وموجعاً في آن واحد .. قال في مرافعته :
" إن هذه القضية المبسوطة أمامكم هي قضية خطيرة جداً تختلف عن غيرها من القضايا التي يتناولها اختصاصكم , فهي لا تدور حول سند يطلب الحكم بقيمته المعترف بقبضتها نقداً وإثبات الحجز الملقى أو صك البيع , بل هي قضية حجر , والحجر هو حجر الدماغ والروح وموت أدبي ويد هائلة تضغط على الإنسان الذي بلغ من العمر عتياً فتخلع عنه ثوب الأربعين أو الخمسين الذي ألبسته إياه السنون وتعيده غلاماً قاصراً وتقيم له وصياً .
ويزيد في خطورة هذه القضية من حيث موضوعها ونتائجها أن من يطلب منكم الحجر عليه فتاة ليست كسائر الفتيات , وثبت بها العبقرية إلى قمم الأدب والعلم والفن الخالد , وعلا نجمها في سماء العربية ورفع لواؤها الخفاق فوق كل قطر من الأقطار الناطقة بالضاد وتجاوبت بأصداء آياتها أرجاء النيل وجبال لبنان وسهول سوريا وصحارى العرب , فهي حديث العرب في كل صقع وواد , وهي بنفسها دولة في دولة الأدب , ونور من أنوار الشرق , وقلم من أقلام الخلود , وعجيبة من أعاجيب الوحي والإلهام , كانت دارها في وادي النيل كعبة الأدباء ومحج العظماء , تكتب فيقال كتبت مي, وتحدث فترهف لها الأسماع وتنصت لها القلوب , وتخرج الكتاب فتتلقفه الأيدي , وهي تتكئ على مكتبة لها فيها الألواف من الكتب , وتسكب من عبقريتها في الأرواح وفي الكؤوس سحراً ومجداً ووحياً وهياماً وأملاً ورحيقاً.
أيها القضاة !
بعد أن قرأت هذه القضية وما فيها من لوائح وتقارير , وبينما أنا أقلب كتب الشرع وأبحث في الحجر وأسبابه ونتائجه , وبعد أن كنت حائراً متردداً لا أعرف أين وكيف أضع رأييي وعقيدتي وفي أية كفة في الميزان ألقي مطالعتي , طلع شهاب في سماء هذه القضية , وطرأ على هذه الأوراق طارئ قلبها بطناً لظهر وظهراً لبطن وطاح بكل شيء في هذا الملف وأعاد الحق إلى نصابه والحقيقة إلى عرشها .
فقد أرسلت البطاقات تدعو الناس إلى استماع محاضرة تلقيها الآنسة مي في نادي " العروة الوثقى" في " وست هول" من على منبر الجامعة الأمريكية . وأخذ الناس يتساءلون : أتقوى مي على إلقاء محاضرة؟ هي إذن تقرأ وتكتب , فكيف قال عنها الأطباء في تقاريرهم أنها لا تكتب ولا تقرأ ؟ وهي إذن تجمع في القرطاس حكماً وآيات فكيف قيل أنها لا تجمع إلا رماداً , وهي إذن ذلك الطائر الغريد فكيف قيل إنها فقدت تغريدها وصوت إحساسها , وهي إذن ذات أوتار فكيف قيل أن قيثارتها تحطمت ؟
وجاء موعد المحاضرة فهرعت إلى قاعة الجامعة الأمريكية والواجب يستحثني والضمير يلح علي بتلمس الحقيقة في مصدرها وينبوعها . فلقد كنت ظامئاً إلى معرفة الحقيقة التي من أجلها نحن نرتدي هذه الأثواب والقلانس ونطبق القانون .
هرعت إلى قاعة الجامعة الأمريكية , وكلي شوق إلى جس النبض الذي تنبض به هذه القضية ورؤية الوجه الذي قيل أنه وجه مجنون وسماع الكلمة التي قيل أنها كلمة من اختل شعوره واضطرب عقله وفقد إرادته . هرعت إلى قاعة الجامعة الأمريكية مساء البارحة فإذا هي تغص بالخلق يدفع بعضهم بعضاً , يشرئبون بالأعناق ليروا إذا كانت " مي" أميرة الأدب وصناجة العرب ما تزال لدولتهم ولهم .
ودقت الساعة الثامنة .. فإذا مي تطل على المسرح وقد لعبت بها الأهوال . فلعب الشيب برأسها. ووقفت على المنبر وأخذت تتدفق بذلك البيان الساحر الذي تعود العالم العربي أن يسمعها تنقر على أوتاره الخلابة بريشة لو رآها رافايل وروبنس لأدعيا أنها ريشتهما وأن مي اغتصبتها في حين أنها ريشتها التي وضعها الله في يدها منذ كونها في أحشاء عجيبة من عجائب الفن , ومعجزة من معجزات الأدب .
وانقضت الساعة الثامنة الكاملة الكاملة بدقائقها وثوانيها , وهي تلقي الدرر , وترصع جيد اللغة العربية بجواهر من الزمرد والياقوت والماس . فضج كل من في القاعة ضجة الإكبار والتعظيم , ووثبت القلوب واهتزت الجدران للتصفيق الداوي المستمر الذي لم تشأ الأيدي أن تكف عنه , وأخذ الناس يقول بعضهم لبعض : أتكون هذه الفتاة مجنونة وقد جننا بها , وإذا كانت هي المجنونة فهل نحن العقلاء ؟!.
لقد زالت حيرتي وزال ترددي بعد هذه المحاضرة الساحقة واقتناعي أن الآنسة مي لا يحجر عليها . فالفتاة التي ألقت هذه المحاضرة لا يحجر عليها , ولا تحجر حريتها وعبقريتها , فهي أسمى من أن تطالها يد القصر , وأكبر من أن تمسها يد الحجر .
إن الحجر على هذه النابغة هو حجر على الأدب العربي وعلى الأمة العربية وعلى عبقريتها العربية , فلا تعدموها بسطرين من قلمكم . وهي عاقلة فلا تجعلوها بحكمكم مجنونة !
هكذا جاءت كلمة الحق أخيراً بعد أن تأخرت كثيراً .. وحاولت مي بعد ذلك لملمة نفسها التي بعثرتها الكوارث المتلاحقة في الفصل الأخير من حياتها .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
وقررت العودة إلى مصر حيث موطن ذكريات حياتها ورصيد أيامها الحقيقي .. المكان الذي شهد تفجر مواهبها .. واحتفى بريادتها ونبوغها . والوطن الذي سجل لها شهادة التفرد في الأدب والثقافة والخطابة .. وشهد بإنجازها الأدبي غير المسبوق في إشعال ومضة الفكر .. وإضفاء مناخ يتفاعل من خلاله المثقفون والمبدعون هذا الانجاز هو الصالون الأدبي الشهير الذي جمع أهل الفكر والفن والثقافة والإبداع مساء كل يوم ثلاثاء في صالون "مي" .
عادت مي عام 1939 إلى مصر بعد ثلاثة سنوات من العذاب قضتها في لبنان في مستشفى العصفورية لمدة عامين , ثم في مستشفى "ربيز" ثم في منزل ببيروت .
ولم تكن مي زيادة التي عادت من بيروت هي نفسها مي التي سافرت إليها في عام 1936 . لقد آثرت "مي" الجديدة العزلة , وأغلقت حياتها تماماً على نفسها وقلة قليلة جداً من الأصدقاء. كانت قد اكتشفت عند عودتها أن مكتبتها قد سرقت , ولم يبق منها إلا ألف وخمسمائة مجلد فقط , كما كان عليها أن تبحث عن مسكن جديد تسكن به , وأن ترفع الحجر عليها في محاكم مصر كما فعلت في محاكم لبنان . كل هذا أصابها باليأس والانسحاب من الحياة كلية .. ويصف عميد الأدب العربي وحدة مي وعزلتها في السنتين الأخيرتين من حياتها فيقول :
مضت مي في طريقها إلى العزلة مضياً رفيقاً , أو قل إنها تدرجت تدرجاً بطيئاً في أول الأمر , ولكنه سريع ملح آخر الأمر . أخذ ميلها إلى العزلة يظهر بعد أن فقدت أبويها , وبعد أن غمر الحزن نفسها المشرقة , ولكنها لم تقطع صلتها بالناس فجأة , وإنما قللت لقاءهم , وتجنبت ما يدعو إلى هذا اللقاء , وكنت بين الناس الذين شرفتهم بصداقتها , فكنت ألقاها بين حين وحين , فنستخلص لأنفسنا من الدهر وأحداثه ساعة أو ساعات نتحدث في الأدب والفلسفة , جادين حيناً ومازحين حيناً آخر , وكان سكرتيري ثالثنا في هذه الاجتماعات , وكان لنا رابع يحضرنا دائماً , ولكنه لم يكن يفهم عنا .. ولعلنا كنا نفهم عنه كثيراً , وهو ذلك الإبريق الذي كان ممتلئاً دائماً من شراب الورد . والذي كنا نستسقيه غير مرة في هذه المجالس العذبة المرة .
ذلك أن مي كانت في طور الحزن اللاذع , والألم الممض , والتشاؤم الذي كان يسرع إليها كما كانت تسرع إليه . وطالما دافعت عن هذا التشاؤم , وطالما حاولت أن أرد عنها هذا الحزن المهلك , ولكني لا أكاد أدنو إلى النجاح إلا ليردني الإخفاق عما كنت أريد رداً عنيفاً .
وكنت أريد أن أستنقذ مي من تشاؤم أبي العلاء كما كنت أريد أن أستنقذها من الإسراف في التأثر برجال الدين , ولكن أبا العلاء ورجال الدين كانوا أقوى مني ومن غيري أيضاً .
وقبل وفاتها بفترة بسيطة اتصل بها الدكتور طه حسين تليفونياً , وطلب أن يلقاها, وقال لها : سأزورك اليوم .. فقالت : لا ..
قال : سأزورك غداً
قالت : لا ..
قال : إذن متى أزورك ؟
فقالت : لا تزرني أبداً !
قال : لماذا يا سيدتي ؟
قالت : هل تريد أن تعرف السبب؟
قال : نعم
قالت: لقد قررت ألا أقابل أحداً من الناس إلا رجال الدين .. إذا أردت أن تراني فكن قسيساً .
فضحك الدكتور طه حسين وقال:
- سيدتي .. يعز علي ألا أراك , ويستحيل أن أكون قسيساً !
والبعض يقول إن "مي" قرأت وكتبت في عزلتها هذه عدة أعمال ومنهم أحد الصحفيين المقربين لها طاهر الطناحي .. فقد ذكر في كتابه " أطياف من حياة الآنسة مي" أنها أنجزت منذ سفرها إلى لبنان إلى أن توفيت كتاب : " ليالي العصفورية" وهو يحوي وصفاً لما رأته وعانته في مستشفى العصفورية ببيروت وكتاب " في بيتي اللبناني" وهو وصف لحياتها بعد خروجها من المستشفى وإقامتها في بيت خاص ببيروت و " المنقدون" رواية باللغة الفرنسية .
و " علاقة فينيقية بمصر " أدب وتاريخ .. و "مذكراتي" ويحتوي على مشاهداتها وذكرياتها في مصر ولبنان وأوروبا, وتكتب فيه عن كبار العلماء والأدباء الذين عرفتهم , والذين كانوا يحضرون صالون الثلاثاء , وما كان يدور بينهم من نقاش وطرائف.
وانطوت مي على نفسها .. وغرقت في استدعاء صور الماضي واستحضار ذكرياتها مع الأحباب الذين رحلوا وتركوها فريسة للدسائس والمؤامرات . وهدفا للطامعين الذين استغلوا نظرتها المثالية للحياة والبشر.
وبدأ الانسحاب التدريجي من الحياة .. بفقدان الرغبة في كل شيء الطعام .. الشراب.. الحياة الاجتماعية . وهزل الجسد .. وبدأت أجهزته تصاب بالإنهيار إلى أن خمدت ودخلت مي في غيبوبة .. ونقلت إلى مستشفى المعادي بالقاهرة حيث بذلت جهود مكثفة من الأطباء لإنقاذ حياتها .. لكن القدر كان قد كتب كلمته .. ونفذت إرادة الله .. وفاضت روح مي الطاهرة في التاسع عشر من اكتوبر عام 1941 .
وأسدل الستار على قصة حياة فريدة ذاقت الوحدة وتعذبت بقسوتها منذ طفولتها المبكرة حتى آخر يوم في عمرها القصير . وغاصت في بحور الثقافة والفكر والفن والأدب وكانت كالفراشة التي تمتص رحيق الإبداع من كل بساتينه .. وتمكنت من إتقان عدة لغات تجولت من خلالها في مختلف الثقافات والآداب والفنون العالمية .
وكتبت بالفرنسية .. ثم بالعربية .. ودرست القرآن والشريعة . وكانت شعاع الفكر والمعرفة الذي جمع أكبر مفكري وأدباء عصرها .
وعاشت مي تقرأ .. وتكتب .. وتعزف سيمفونيتها الخاصة في الحياة . وتذوقت الأديبة الكبيرة طعم المجد والشهرة وتألقت ببريق التوهج الفكري والإنساني فأصبحت محط الأنظار ومركز الاهتمام في الوسط الأدبي والثقافي في عصرها .
ورغم التحرر الفكري والانفتاح على ثقافات العالم ظلت مي في داخلها امرأة شرقية محافظة للغاية . فعاشت حباً فريداً مع الأديب جبران خليل جبران دون أن تراه ولو مرة واحدة في حياتها .. حباً على الورق !
وعندما فارقها الأحباب تباعاً : الأب .. الحبيب .. الأم .. ثم الأصدقاء الذين وقفوا معها في محنتها الأخيرة أمين الريحاني وفليكس فارس . استسلمت تماماً .. واستعدت للنهاية بنفس راضية .
وبهذا انتهت قصة حياة إنسانة فريدة في كل شيء ! في طفولتها البائسة .. في شبابها المتوهج بالعبقرية والنجاح والشهرة .. في حبها المحروم .. في انسحاب الحياة بكل جمالها وبريقها من تحت قدميها فجأة .. ثم في نهايتها المأساوية التراجيدية المحزنة .
وهي قصة لسيرة حياة تستحق أن تروى .. وأن تقرأها الأجيال ...!
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
الفصل التاسع
مقتطفات من كتابات مي
ما هو الرصيد الذي تركته مي ؟
الإجابة على هذا السؤال سوف تكون - حتما - بعيدة عن لغة البنكتوت وحسابات البنوك .. فهي لم تترك شيئاً من هذا !
لكنها تركت رصيداً أدبياً يعد ثروة حقيقية تعكس قيمة هذه الأديبة الفريدة .
فقد تركت مي حوالي أربعة عشر كتاباً هي :
باحثة البادية " عن ملك حفني ناصف" - عائشة التيمورية - بين المد والجزر - سوانح فتاة - الصحائف - كلمات وإشارات - ظلمات وأشعة - ابتسامات ودموع - أزاهير حلم " شعر بالفرنسية" - المساواة - وردة اليازجي - غاية الحياة - الحب في العذاب - رجوع الموجة .
كذلك تركت عدداً كبيراً من المقالات في مختلف الجرائد والمجلات التي كانت تصدر في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي ومنها : مجلة "الزهور" و "المقتطف " و " الهلال" و " النهضة النسائية " و " المرأة المصرية ".. كما كتبت في صحيفة " المحروسة " و" الأهرام " وكان عام 1930 و 1931 من أخصب أعوام مي في الكتابة .. ومن بين أهم المقالات التي نشرتها بجريدة الأهرام في هذه الفترة مقال تحت عنوان : " جبران خليل جبران يصف نفسه في رسائله" ونشر بعد أحد عشر يوماً من وفاة جبران 1931 .
ويذكر أصدقاء مي المقربون أنها تركت أعمالاً مخطوطة أهمها : " ليالي العصفورية" وفيها تسجل تجربتها في مستشفى الأمراض العقلية بلبنان .. ويذكر جميل جبر أن " هذه المخطوطة بقيت حتى اليوم مجهولة المصير " بينما تقول سلمى حفار الكزبري إنها ما زالت محفوطة عند أقاربها في لبنان وهم يرفضون السماح بجمعها ونشرها ".. وتشير سلمى إلى مخطوطة أخرى بعنوان " المنقذون" كانت مي قد حدثت عنها الكثيرين.. وفيها تسجل كلمة حق عن الأصدقاء الحقيقيين الذين وقفوا معها في محنتها الأخيرة في لبنان .. كما يقل إنها كانت تعد في السنوات الأخيرة قبل وفاتها دراسة عن الفينيقيين في أشعار هوميروس , وكذلك كانت تنوي ترجمة كتاب المستشرقة الانجليزية مارجريت سميث عن رابعة العدوية إلى اللغة العربية .
وقد رأيت أن أقدم في نهاية هذا الكتاب مقتطفات من كتابات "مي" حتى يتعرف القارئ على أسلوب ورؤية كاتبة من أهم كتاب القرن العشرين هي .. مي زيادة.. أو الآنسة مي .. والآن تعالوا نقرأ لها ..
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
( من كتاب " الصحائف")
فجر جديد يرسل أشعته وألوانه. ولا بد للجيل الجديد أ، يترجم فيه عن الوحي الجديد.
**
الكلمة التي لا تموت تختبئ في قلوبنا . وكلما حاولنا أن نلفظها تبدلت أصواتنا كأن الهواء لم يتم استعداده لتلقي نبراتها.
**
النقد من أخص خواص عصرنا . في السياسة , والإدارة , والقانون , والتاريخ , والآداب , والاجتماع , ترى النقد شائعاً بمختلف اللهجات والأساليب . حتى الاكتشافات العلمية وانقياد عناصر الطبيعة لخدمة الإنسان جاءت عن طريق النقد .
**
الثورة ككل جرأة : في وقتها ومكانها عبقرية وانتصار , وفي غير ذلك حماقة واندحار .
تحديد الخطأ والصواب أساس في نقد العلوم الرياضية والطبيعية واللغوية . أما النقد الأدبي فلا إطلاق فيه . وعمل الناقد البصير هو التحليل لتقرير ماهية كتاب أو أثر . فينبئ الناقد بذلك نفسه , وينبئ المؤلف أو المنشئ , وينبئ الجمهور معنياً نزعة من نزعات العصر .
**
نحن في حالتنا الأدبية الحاضرة أشبه ما نكون بالعبرانيين في صحراء التيه . فأنى لنا الدليل الخبير ليسير أمامنا في النهار عموداً من السحاب وفي الليل عمود نارِ يضيء لنا ؟
**
حتى ولو سار العمود أمامك يهديك سواء السبيل فلا بد أن تكون لنفسك المصباح والدليل .
لعل كلمة " نقد" هي التي أوهمت معالج النقد وأوهمت الناس أنه لا بد من الطعن والتحامل ليكون النقد "بارعاً". فلو وضعنا " تمييز" مكانها كانت أوفى بالغرض .
**
عاطفة واحدة قد تكفي لتكون شاعراً وفناناً . أما للناقد قلا أقل من عاطفتين اثنتين : إحداهما للشعور مع موضوعه , ومثله, وبدرجة انفعاله . والأخرى للتميز عنه , والعودة إلى شخصيته , ( الناقد ) يستمد منها قوة التبين والحكم .
**
بسبب هذا التضاعف الفني وهذا الازدواج في الشخصية نرى أن أعاظم الشعراء والفنانين لم يكونوا في نقدهم دونهم في غررهم الابداعية. والذي لا يعرف أن يعجب بنفائس الفن عند دانتي مثلاً , وبتراركا وميكلانجلو وفاجنر وجوتي وهايني . يستفيد مما تجلى من طبيعتهم في عميق البحث , ونافذ البصر , وواسع الاطلاع , وعالي الحكم .
**
لا يحتاج الشاعر إلى أكثر من الشعر ولا يحتاج العالم إلى غير العلم . أما الناقد فإن لم يكن ذا إلمام بالعلوم والتواريخ , جامعاً بين الفطانة والصدق , ذا مقدرة لمسايرة أبعد شاعرية وتفهم أدق فكرة وقبول كل نظام , والتقمص في كل فرد , والخضوع لكل تأثير , إن لم يكن كل ذلك تصحبه مواهب أخرى , فلست أدري ماذا يكون . ولا هو يدري كيف يتصدى للنقد العام .
**
تجتاز الأرواح النسرية آفاق جيلها كعجائب خارقة , كظواهر بسيطة ساحرة في رؤى طويلة الأمد .
**
الوصف على ثلاثة أنواع : وصف الخطوط الظاهرة من الحوادث والأشخاص والأشياء . ووصف تلك الخطوط بعد أن تكون أفرغت في الأشياء والأشخاص والحوادث من دماء جراحك , ونبضات قلبك , وتحليق خيالك , ولهب أفكارك , ومرارة اختبارك , وعجيب بداهتك , وحلاوة أملك . ووصف آخر ليس فيه حتى ولانسخ الخطوط .
قضبان النوافذ في السجن تنقلب أوتار قيثارة لمن يعرف أن ينفث في الجماد حياةً
أقرأ أحياناً ما أسائل نفسي عنده : أأنا أمام صراحة جرئ مقدام ؟ أم هذه جسارة من يفتقر إلى التثقيف ؟
**
يظهر للبيب من جهلك ومعرفتك وحكمتك في ما لا تقول في بعض المواقف أكثر مما يظهر لذي الفكر العادي في ما تقول وتشرح .
**
بعض الناس غير موفقين في ألسنتهم: فإن أثنوا جاء الثناء إهانة , وإن فخموا جاء التفخيم مهزلة , وإذا سردوا حكاية أثبت مغزاها عكس ما أرادوا , وإذا صاموا وصلوا قطع عنهم المن والسلوى .
**
في عالم المحسوس تهدم أولاً ثم تشيد . أما في عالم المعنى فالهدم يتم إذا شئت وأنت تبني .
**
يأبى جيلنا التحصن في الأساليب الماضية لأنها لا تكفيه . إلا أنه لم يهتد إلى أساتذته السائرين في طليعته حتى اليوم.
النقد وحي لأنه يدرك الوحي ويحتضنه . وحرية لأن لا تمييز في العبودية
**
كان عصر النهضة في أوربا فجراً للإلهام الأدبي والابداع الفني, والنقد والحرية . وجميعها تسير في موكب واحد .
**
أنشأ النقد الحصيف يظهر هنا وهناك في أنحاء العالم العربي. إنه كثيراً ما يُضل وكثيراً ما يخطئ . ولكنه سينمو. لأن براعم الإبداع والحرية آخذة في النمو .
**
من الكتاب من هو ملخص جلسات ومدون وقائع ومنهم كولمبس جاء لاقتحام البحار وركوب الأخطار واكتشاف عوالم مجهولة .
**
من ظريف النكات في الثناء على المرأة الذكية قولهم " إنها تجاري الرجال" . ولماذا لا تكون مجارية نفسها التي تكشفتها كل يوم ؟
لا عجب أن يخاطب الكاتب الأجنبي قومه بلا شرح ولا تعليق . أما نحن فعلينا أن نشرح ونعلق لأن جمهورنا جماهير , عدا إنه أقل اطلاعاً من الجمهور الغربي . وما يعرفه المتلقى دروسه بالإنجليزية عن تاريخ أمريكا وإنجلترا وحودثهما ورجالهما يجهل أكثره المتعلم بالفرنساوية المتضلع في تاريخ فرنسا وآدابها . وقس على ذلك .
**
نحسب أن ما يمكن حصره وتعريفه هو غاية الغايات . ما أيسر الإحاطة بالبركة والحوض , بينا لن نقوى على سبر غور البحر ولا في ناحية من نواحيه!
**
لقد كان هوغو ظالما يو قال: " إن الحسود وصاحب الغرض هما اللذان يوحدان بين الشيء العادي والفريد ". فقد يصدر هذا عن نفوس موفورة الفطنة والشعور والانصاف لأننا بني الإنسان كالشمس : هي منبع الضياء والحرارة ومع ذلك فلا تخلو من بقع الجمود والظلام .
**
كأن القافية من شعرنا نقشت في عقولنا كذلك . فصرنا ما ذكرناه شخصاً . أو أمراً . أو حادثاً إلا حشرناه في بحر ووزن وقافية .
**
النقد التحليلي أقل حظاً في الانتشار من الهجو والطعن وحب التقول. ولكن له من لا يرضى بغيره , ولله الحمد !
**
لا يقوم الحاضر إلا على قاعدة الماضي , فليذكر هذا أولئك الذين يقولون بالهدم " المطلق" !
**
الجمال في الآداب كما في الأشخاص على أنواع :منها الجمال الذي هو لطف باسم ملون وكل ما فيه واضح جلي : جمال الصباح , ومنها جمال هو روعة الليل الزاخر بالأنس والجلال معاً , الزاخر بالأضواء والأسرار والأكوان والعجائب .
**
الحب الذي يجعل العالم هيكلاً حيث تتخشع النفوس فتجثو للعبادة والصلاة والاتحاد الروحي مع جميع قوى الكون - هو هذا الذي نعنيه عندما نتكلم عن الحب ,ونعظم عواطف الحب .
للعقول والنفوس كما للأجساد مناخ . ألا ترى كثيرين يمرضون في الأمكنة المرتفعة أو على الواحل ولا يستريحون إلا في الأمكنة المعتدلة الهواء ؟
**
مراعاة لصحتهم يغادر ذوو الحول والصول المرتفعات فتظل كما كانت من قبل : مسرحاً للغزلان , ونزهة للأسود , وموطئاً للنسور , وعروشاً للتجلي .
**
وراء الشرقيين إرث عظيم : إرث الأديان والنبوات . لذلك يتصور بعضهم أن الكاتب لا يكتب , وأن الخطيب لا يخطب إلا ليعلم ويهذب .
**
للأسلوب التهذيبي وقته ومكانه . وهو لا يؤدي رسالته سواه وإن كره دعاة " الفن للفن " وأنصار " الحياة للحياة" . على أن القول الذي يرفع النفوس إلى باريها في محافل الصلاة من الواعظ الديني , ويرغب في حميد الأخلاق من الخطيب المدني , يتغير معناه ويفقد قوته يوم يصمم امرؤ على أن لا يكتب الا ليرسله , وأن لا يخطب الا ليؤيده .
من أفعل أساليب التهذيب والاصلاح, الأساليب غير المباشرة لأن القيود ألذ ما تكون للبشر عندما يوثقون بها وهم مقتنعون بأنهم لم يصلوا يوماً إلى مثل هذه الحرية .
**
كأن أعظم صيحة يلقيها العبقري في الناس , وإن هو جهلها , هي كلمة قالها السيد المسيح للمخلع " قم احمل سريرك وامش !".
**
ينهض الجمهور , أو أفراد منه , لمباراة السابقين ويمضي هؤلاء في تحليقهم المألوف لهم فتظل المسافة متشابهة , أو هي تتزايد اتساعاً , بينهم وبين المتسلقي آفاقهم . وهنا ينفذ نظام بقاء الأصلح في صورة من صوره المسارعة : فالضعيف يندحر ويهبط, ويتحكم . وذو الكفاءة يرتفع إلى أعلى مرتبة يمكن أن يدركها .
**
وهذا الاندفاع إلى الأمام لا حد له ولا نهاية .
**
وراء كل أفق أفق ينفسح . كذلك الحياة دوماً في تكرر والفكر في تنوع , والفن في تجدد .
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
شرَرٌ وحبَبَ
• حكمة اليوم في مذكرتي تقول إن الدعة أقدر من الحدة , كما إن أعظم الدهاء يكون أحياناً في البساطة .
• كيف أشفق على الذي يبدد ألمه في الشكاية والتظلم فلا يبقى منه ما يستدعي الشفقة ؟ كل شفقتي تتجه إليك أنت الذي لا تشكو مع إن ألمك صامت لا حد له ولا نهاية .
• هل من سبيل إلى حل عقدة تستوجب القطع , وكلما لمستها علمت أن خيوطها من نياط قلبك ؟
• لا يضعف الثناء والطعن كالكلام الحماسي والتبجيل في ما هو عادي والكلام الفاتر في ما هو عظيم جليل .
• تتهيب المرأة أمام مقدرة الرجل لاعتقادها أنه أبرع منها في الإلمام بالأمور من جميع جهاتها فما أشد خيبتها يوم ترى الرجل الذكي الحساس لا يدرك ولا يريد أن يدرك من الحسنات أو السيئات إلا وجهاً واحداً فقط !
• كم نتذرع بالذكاء والعلم لنقول كلاماً سخيفاً " بأستاذية"!
• من خساسة النفاق أنه يتكلم بلهجة تحاذي الصدق ويتلون بلون الواقع المحسوس.
• أليس من المدهشات أن مظاهر الباطل أقدر في الإقناع أحياناً من مظاهر الحق؟
• كنت أحسب الباطل مركباً معقداً والحق بسيطاً واضحاً أما الآن فقد بدأت أرتاب وأتساءل لماذا ترى الناس أقرب ما يكونون إلى اعتناق الباطل؟
• لا تلمس الحق البسيط الجلي إلا النفس البصيرة الرفيعة.
• ترى أي صدق وأي حق يظهر براءتك أمام أناس وطدوا النفس على تجريمك والحكم عليك ؟
• الألم الكبير تطهير كبير.
• أخرج من بعض الاجتماعات شاعرة بأن الناس أخذوا مني شيئاً كثيراً أقضي أسابيع في الاستيلاء عليه من جديد – دون أن أعرف ما هو .
• ليس ما يحمل على تقدير الحياة وحبها كشهامة الرجل الشهم.
• يخيل أحياناً للمتأمل باستئثار المرتبة والمجتمع أن الفرد آلة لهما لا إنهما للفرد ومنه.
• القلب الكبير الذي يحوي العالم يضيق بالقلب الصغير يوم يزعم هذا السيطرة عليه وتنظيم عمله.
• لا يتيسر التساهل مع القلوب المحدودة, والعقول الصغيرة , والمقاصد الركيكة إلا وهي بعيدة.
• بعض الباحثين طويلاً عن كلمة ظريفة يفاجئون بها العالم – لا ينقصهم ليكونوا ظرفاء إلا أن يكونوا ظرفاء.
• ما أثمن نصيحة صديقك المخلص الحكيم عندما تشط عن طيش أو عن قلة مبالاة!
• ألقى روماني شهير إلى الجاهل بهذه النصيحة : " انظر واسمع واسكت !" والذي يفهم هذا ويحققه في حياته لا يكون جاهلاً بل هو العليم الحكيم.
• أجل- لكل منا حق على الحياة والحرية والراحة . ولكن ليس على راحة الآخرين ولا حياتهم ولا حريتهم.
• الاختبار والعلم يصقلان العبقرية ولكن لا يقومان مقامها.
• للنبوغ مؤمنون وكافرون.
• لو أرغمت على قبول أحد الثلاثة فأيهم تختار : الذي يعاديك علناً ويرجمك صراحاً مؤولاً كل حسنة فيك ومنقصاً لك كل فضل؟ أم العدو المتقمص بثوب الصديق الذي يدس وراء كل ثناء ظاهر ضعفه من الطعن؟ أم الذي يبدأ بالثناء عليك أجمل الثناء ليصدق الناس بعدئذ افتراءه بحجة ذلك الثناء المضلل؟
• قبل أن تمزقنا ظلماً أظافر الحياة نشفق على الذين يموتون ونحسبهم محرومين من جمال الكون وهناء العمر وبعدئذ – بعدئذ يوم تقسو الحياة على شبابنا وقلوبنا وأفكارنا وآمالنا نغبط الذين مضوا ونعلم أنهم من المختارين المحبوبين.
• الألم محسن كبير لأنه يجردنا من الغرور والدعوى .
• يحسب بعضهم أن السدود التي يجتهدون كثيراً في إقامتها تكفي لإطفاء نور الشمس وتضيق رحاب الفلك.
• ما أشقى المحسود وما أحراه بالعطف! وما أشقى الحسود وما أحراه بالعطف .
• في المٌعذِّب والمعذَّب لا تجد إلا الإنسانية المتسلقة طريق جلجلتها راسفة في القيود, دامية الجراح, وفي صميم قلبها عتاب للحياة التي لم تسمح أن تكون صالحة كما كانت تود أن تكون.
• لو كانت السعادة متعلقة بشأن أو شأنين من شؤون الحياة لتيسرت لجميع الناس دهراً بعد دهر ولكنها , كالشقاء, تتألف من جميع عناصر الحياة, ووقع كل من تلك العناصر يختلف باختلاف الأمزجة لذلك تجد البحث عنها متواصلاً والتساؤل عنها متجدداً في كل قلب ينبض ويتألم.
• جبار هو ذاك الذي يكون شعاره في الحياة : " سأتألم , ولكني لن أغلب !".
• كلا – كلا ! لا ظلام في الحياة وإنما هي أنظارنا الكليلة التي تعجز عن مرأى النور في أبهى مجاليه.
• حكمة اليوم في مذكرتي تقول إن الدعة أقدر من الحدة , كما إن أعظم الدهاء يكون أحياناً في البساطة .
• كيف أشفق على الذي يبدد ألمه في الشكاية والتظلم فلا يبقى منه ما يستدعي الشفقة ؟ كل شفقتي تتجه إليك أنت الذي لا تشكو مع إن ألمك صامت لا حد له ولا نهاية .
• هل من سبيل إلى حل عقدة تستوجب القطع , وكلما لمستها علمت أن خيوطها من نياط قلبك ؟
• لا يضعف الثناء والطعن كالكلام الحماسي والتبجيل في ما هو عادي والكلام الفاتر في ما هو عظيم جليل .
• تتهيب المرأة أمام مقدرة الرجل لاعتقادها أنه أبرع منها في الإلمام بالأمور من جميع جهاتها فما أشد خيبتها يوم ترى الرجل الذكي الحساس لا يدرك ولا يريد أن يدرك من الحسنات أو السيئات إلا وجهاً واحداً فقط !
• كم نتذرع بالذكاء والعلم لنقول كلاماً سخيفاً " بأستاذية"!
• من خساسة النفاق أنه يتكلم بلهجة تحاذي الصدق ويتلون بلون الواقع المحسوس.
• أليس من المدهشات أن مظاهر الباطل أقدر في الإقناع أحياناً من مظاهر الحق؟
• كنت أحسب الباطل مركباً معقداً والحق بسيطاً واضحاً أما الآن فقد بدأت أرتاب وأتساءل لماذا ترى الناس أقرب ما يكونون إلى اعتناق الباطل؟
• لا تلمس الحق البسيط الجلي إلا النفس البصيرة الرفيعة.
• ترى أي صدق وأي حق يظهر براءتك أمام أناس وطدوا النفس على تجريمك والحكم عليك ؟
• الألم الكبير تطهير كبير.
• أخرج من بعض الاجتماعات شاعرة بأن الناس أخذوا مني شيئاً كثيراً أقضي أسابيع في الاستيلاء عليه من جديد – دون أن أعرف ما هو .
• ليس ما يحمل على تقدير الحياة وحبها كشهامة الرجل الشهم.
• يخيل أحياناً للمتأمل باستئثار المرتبة والمجتمع أن الفرد آلة لهما لا إنهما للفرد ومنه.
• القلب الكبير الذي يحوي العالم يضيق بالقلب الصغير يوم يزعم هذا السيطرة عليه وتنظيم عمله.
• لا يتيسر التساهل مع القلوب المحدودة, والعقول الصغيرة , والمقاصد الركيكة إلا وهي بعيدة.
• بعض الباحثين طويلاً عن كلمة ظريفة يفاجئون بها العالم – لا ينقصهم ليكونوا ظرفاء إلا أن يكونوا ظرفاء.
• ما أثمن نصيحة صديقك المخلص الحكيم عندما تشط عن طيش أو عن قلة مبالاة!
• ألقى روماني شهير إلى الجاهل بهذه النصيحة : " انظر واسمع واسكت !" والذي يفهم هذا ويحققه في حياته لا يكون جاهلاً بل هو العليم الحكيم.
• أجل- لكل منا حق على الحياة والحرية والراحة . ولكن ليس على راحة الآخرين ولا حياتهم ولا حريتهم.
• الاختبار والعلم يصقلان العبقرية ولكن لا يقومان مقامها.
• للنبوغ مؤمنون وكافرون.
• لو أرغمت على قبول أحد الثلاثة فأيهم تختار : الذي يعاديك علناً ويرجمك صراحاً مؤولاً كل حسنة فيك ومنقصاً لك كل فضل؟ أم العدو المتقمص بثوب الصديق الذي يدس وراء كل ثناء ظاهر ضعفه من الطعن؟ أم الذي يبدأ بالثناء عليك أجمل الثناء ليصدق الناس بعدئذ افتراءه بحجة ذلك الثناء المضلل؟
• قبل أن تمزقنا ظلماً أظافر الحياة نشفق على الذين يموتون ونحسبهم محرومين من جمال الكون وهناء العمر وبعدئذ – بعدئذ يوم تقسو الحياة على شبابنا وقلوبنا وأفكارنا وآمالنا نغبط الذين مضوا ونعلم أنهم من المختارين المحبوبين.
• الألم محسن كبير لأنه يجردنا من الغرور والدعوى .
• يحسب بعضهم أن السدود التي يجتهدون كثيراً في إقامتها تكفي لإطفاء نور الشمس وتضيق رحاب الفلك.
• ما أشقى المحسود وما أحراه بالعطف! وما أشقى الحسود وما أحراه بالعطف .
• في المٌعذِّب والمعذَّب لا تجد إلا الإنسانية المتسلقة طريق جلجلتها راسفة في القيود, دامية الجراح, وفي صميم قلبها عتاب للحياة التي لم تسمح أن تكون صالحة كما كانت تود أن تكون.
• لو كانت السعادة متعلقة بشأن أو شأنين من شؤون الحياة لتيسرت لجميع الناس دهراً بعد دهر ولكنها , كالشقاء, تتألف من جميع عناصر الحياة, ووقع كل من تلك العناصر يختلف باختلاف الأمزجة لذلك تجد البحث عنها متواصلاً والتساؤل عنها متجدداً في كل قلب ينبض ويتألم.
• جبار هو ذاك الذي يكون شعاره في الحياة : " سأتألم , ولكني لن أغلب !".
• كلا – كلا ! لا ظلام في الحياة وإنما هي أنظارنا الكليلة التي تعجز عن مرأى النور في أبهى مجاليه.
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
رد: مى زيادة //أسطورة الحب والنبوغ
جبران خليل جبران
يصف نفسه بيده في رسائله
من الناس من يعيش للمال , ومنهم من يعيش للمجد , أو لخدمة الوطن أو للعلم ، ولخدمة نفسه والسعي وراء مسرته . ومنهم من يعيش لقلبه نائحاً على حب مضى منتظراً حباً مقبلاً . ومنهم من يعيش يومه ليومه وساعته لساعته ومنهم من يعيش لأسرته أو لبعض أفرادها ولو على حساب الأفراد الآخرين . غايات لا عداد لها تتنوع باختلاف الناس وباختلاف استعداداتهم ومداركهم . فلأي شيء كان يعيش جبران خليل جبران ؟
إن الذين تتبعوا كتاباته قد كانوا يظنون أنه يعيش لفنه الثلاثي : من أدب باللغة العربية , وأدب باللغة الانجليزية وتصوير يدوي ورسم . ولكنه في الواقع لم يكن يعيش لشيء من هذا . ها هو ذا يصف نفسه – وبأية بلاغة نادرة فريدة ! – في رسائل لم يفكر يوماً في أنها ستنشر عند وفاته ولا أنا تخيلت مرة أني سأنشر شيئاً منها وبخاصة في مثل هذا الظرف :
" .. صحتي اليوم أردأ نوعاً مما كانت عليه في بدء الصيف . فالشهور الطويلة التي صرفتها بين البحر والغاب قد وسعت المجال بين روحي وجسدي . أما هذا الطائر الغريب ( يعني قلبه وقد كان مصاباً فيه ) الذي كان يختلج أكثر من مئة مرة في الدقيقة فقد أبطأ قليلاً بل كاد يعود إلى نظامه الاعتيادي . غير أنه لم يتماهل إلا بعد أن هد أركاني وقطع أوصالي . إن الراحة تنفعني من جهة وتضر بي من جهة أخرى . أما الأطباء والأدوية فمن علتي بمقام الزيت من السراج . لا , لست بحاجة إلى الأطباء والأدوية , ولست بحاجة إلى الراحة والسكون . أنا بحاجة موجعة إلى من يأخذ مني ويخفف عني , أنا بحاجة إلى فصادة معنوية , إلى يد تتناول مما ازدحم في نفسي , إلى ريح شديدة تسقط أثماري وأوراقي . أنا , يا مي , بركان صغير سدت فوهته فلو تمكنت اليوم من كتابة شيء كبير وجميل لشفيت تماما . لو كان بإمكاني أن أصرخ صوتاً عالياً لعادت إلي عافيتي , وقد تقولين " لماذا لا تكتب فتشفى لماذا لا تكتب فتتعافى ؟"
وأنا أجيبك " لا أدري . لا أدري . لا أستطيع الصراخ وهذه هي علتي . هي علة في النفس ظهرت أعراضها في الجسد .
" وتسألين الآن " إذن ما أنت فاعل ؟ وماذا عسى تكون النتيجة؟ وإلى متى تبقى هذه الحالة ؟"
" أقول إنني سأشفى . أقول إني سأنشد أغنيتي فأستريح . أقول إنني سأصرخ من أعماق سكينتي صوتاً عالياً . بالله عليك لا تقولي لي " لقد أنشدت كثيراً وما أنشدته كان حسنا " لا تذكري أعمالي ومآثري الماضية لأن ذكرها يؤلمني , لأن تفاهتها تحول دمي إلى نار محرقة , لأن نشوتها تولد عطشي , لأن سخافتها تقيمني وتقعدني ألف مرة ومرة في كل يوم وفي كل ليلة . لماذا كتبت تلك المقالات وتلك الحكايات ؟ لماذا لم أصبر ؟ لماذا لم أضن بالقطرات فأدخرها وأجمعها ساقية ؟ وقد ولدت وعشت لأضع كتاباً – كتابا واحدا صغيرا – لا أكثر ولا أقل . قد ولدت وعشت وتألمت وأحببت لأقول كلمة واحدة حية مجنحة , لكني لم أصبر , لم أبق صامتا حتى تلفظ الحياة تلك الكلمة بشفتي . لم أفعل ذلك بل كنت ثرثارا فياللأسف وياللخجل ! وبقيت ثرثاراً حتى أنهكت الثرثرة قواي . وعندما صرت قادرا على لفظ أول حرف من كلمتي وجدتني ملقى على ظهري وفي فمي حجر صلد .
" لا بأس .. إن كلمتي لم تزل في قلبي وهي كلمة حية مجنحة ولا بد من قولها . لا بد من قولها لتزيل بوقعها كل ما أوجدته ثرثرتي من الذنوب . لا بد من إخراج الشعلة ..."
هذا ما يقوله ذاك الذي لم يكتب يوماً إلا الكلمة المجنحة الحية المحيية . هذا ما يقوله ذاك الذي لم تكن كل كلمة كتبها إلا شعلة منفصلة عن شعلة روحه أي عبقري لا يخجل بكتاباته السالفة , نظرا لسرعة التطور المكتسح كيانه ؟ إن العبقرية الحقة كثيرا ما تقاس بهذا الخجل الذي ينتاب صاحبها , ولو هو حاز بكتاباته إعجاب العالم .
كتب رسالته تلك بعد إصدار كتابه " النبي" الذي تناولته بالترجمة إلى لغاتها عشرة شعوب مختلفة وكانت مجلات العالم وصحفه تتناقل كلمات جبران , ابن الشر ورسومه التي لا تضاهى . رسوم وكلمات لا يأتي بها إلا ذو المواهب الفذة , الذي جرده تهذيبه لفنه من كل زهو وكل دعوى , فسار شوطا بعيدا في جادة الوحدة الرهيبة التي لا يقوى على سلكها إلا الخلاق المبدع من بني الإنسان .
إن جبرانا لم يكن ليسير وحده , بل كان شبح الموت يماشيه أنى ذهب . كان يعرف نفسه مقبلا على الرحيل بينما هو يصدر كتبه بالانجليزية " المجنون" و" السابق" و "النبي" و " رمل وزبد" و" يسوع ابن الإنسان" تحفة تلو الأخرى , فضلا عن كتبه العربية التي نعرفها جميعا وفضلا عن مجموعات رسومه التي كانت مفخرة العبقرية الشرقية بين أقوام تعرف معنى العبقرية ولا يفوتها من خصائصها شيء . وكان آخر كتبه الانجليزية كتاب " آلهة الأرض" الذي نعكف اليوم على مطالعته – وبأي حزن ! – وقد تلقيناه يوم إذاعة نعيه في مصر , وفيه اثنتا عشرة صورة من رسم يده . تلك كانت شيمة جبران في مؤلفاته الانجليزية وفي بعض رسائله الخاصة أيضاً إذ كان يلخص الجملة والمعنى رسما على هامش القرطاس في الغالب , أو هو يشرحه في صورة عجيبة تشغل الصفحة بحذافيرها . ليعود مرة بعد مرة إلى رسم شعاره التصويري الذي يمثل يدا تقدم كل حياتها وقوداً , وتظل اللهب خارجة من تلك اليد الكريمة وصاحبها يفكر في الحياة كما يفكر في الموت . فيقول في خطاب آخر كتبه بعد شهور طويلة .
" أتعلمين , يا مي , أني ما فكرت في الانصراف ( الذي يسميه الناس موتاً ) إلا وجدت في التفكير لذة غريبة وشعرت بشوق هائل إلى الرحيل . ولكني أعود فأذكر أن في قلبي كلمة لا بد من قولها فأحار بين عجزي واضطراري وتغلق أمامي الأبواب .
"لا " لم أقل كلمتي بعد , ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان , وهذا ما يجعل الوقوف عن العمل مرا كالعلقم . أقول لك , يا مي , ولا أقول لسواك إني إذا انصرفت قبل تهجئة كلمتي ولفظها فإني سأعود ثانية لتحقيق أمنيتي . سأعود لأقول الكلمة التي تتمايل الآن كالضباب في سكينة روحي .
" أتستغربين هذا الكلام ؟ إن أغرب الأشياء أقربها إلى الحقائق الثابتة . وفي الإرادة البشرية قوة واشتياق يحولان السديم فينا إلى شموس ..."
إننا ننحني أمام ضريح جديد بعيد نام فيه ذاك القائل :" إن حنيني إلى الشرق يكاد يذيبني . فمتى , متى أعود إلى بلادي ؟". ننحني أمام القبر الذي ينام فيه رجل هو بروحه للإنسانية كلها ولكنه بجسده غريب بين الغرباء . أننحني لنقول كلمة الوداع ؟ لقد جزنا هذا التطور من الغفلة فصرنا نعلم أن الناس إلى الدار الأخرى متتابعون ...
فهنيئا لك برحيلك , يا أخي , لقد أعطيت كثيرا , وإن أغاظتك هذه الكلمة , لقد أعطيت كثيرا وقال فيك الشرق للغرب " هاأنا ذا !" كما قال فيك الشرق الناهض لنفسه " هاأنا ذا ! ها أنا ذا !" حسنا فعلت بأن رحلت !
فإذا كان لديك كلمة أخرى فخير لك أن تصهرها وثقفها وتطهرها وتستوفيها في عالم ربما كان يفضل عالمنا هذا في أمور شتى ...
حسنا فعلت بأن رحلت , يا أخي ! ففي ذمة الله وفي رحمته التي تسعنا جميعا أحياء كنا أو أمواتا !
ميّ
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى