وطن من زجاج //الروائية الجزائرية ياسمينة صالح
صفحة 1 من اصل 1
وطن من زجاج //الروائية الجزائرية ياسمينة صالح
رواية جميلة أعجبتني كثيرا عندما قرأتها لأول مرة. و هي رواية وطن من زجاج للروائية الجزائرية ياسمينة صالح. و هي تتناول الوضع الأمني في الجزائر بلغة لا تخلو من انتقاد. الرواية الصادرة هذا العام عن الدار العربية للعلوم و يمكن الحصول عليها من خلال مكتبة النيل و الفرات كما حصلت عليها أنا. هي الرواية الثالثة للروائية بعد بحر الصمت و أحزان امرأة و هذه الثالثة وطن من زجاج. رغبت في مقاسمتكم بعض السطور من الرواية و اخترت لكم هذه المقاطع.. هي رواية رائعة أرجو أن تتاح الفرصة كي تطلعوا عليها بالإضافة إلى رواية بحر الصمت التي أيضا تعد من ضمن أبرز الروايات التي ترجمت إلى الفرنسية عن الأدب الجزائري. أرجو أن أكون وفقت في هذا الاختيار. و هذا رابط الرواية من مكتبة النيل و الفرات و بهذا أكون كفيت الموضوع.
مقاطع من وطن من زجاج
للروائية الجزائرية: ياسمينة صالح
كلما اعتقدت أنني نجحت في النسيان يحضرني وجه الرشيد ليسألني: من أنت حقا يا صاحبي؟ من أنا حقا يا الرشيد ؟ وكم من الأعوام عشت لأبدو هرما من الداخل إلى هذا الحد؟ عشت أبحث عني في تفاصيل مدينة اكتشفت أنها لا تعنيني تماما. ثلاثون عاما من الإحباط والفرح الكاذب والانكسار اليومي قبالة تاريخ لا يقول الحقيقة. ففي الثلاثين من العمر يصير العمر أشبه بكذبة أبريل. تساءلت كم من العمر يجب أن نستغرقه لنموت تلك الميتة الأخيرة؟ كم من العمر علينا أن نجتره لنصل إلى يقين واحد يحمينا من رُهاب الوقت؟ في العشرين يشعر المرء بالعجز التام عن الفرح بعشرينيته فلا يعرف ماذا يفعل بها، وفي الثلاثين يصير الخوف واقعا ممتدا من القلب إلى القلب. في الأربعين يتحول الخوف إلى حادث مرور يصيب الفؤاد كل يوم.. في الخمسين يتحول الأمر إلى رغبة عارمة في الموت. كيفما كان شكل الموت! هل ثمة إنسان سعيد في هذه البلاد سوى فاقدي القلب والذاكرة؟ حتى المجانين لم تعد لهم رغبة التظاهر بالسعادة بجنونهم. اتضح أن عدد المجانين يتضاعف يوميا بحيث لم يعد ممكنا حبس مجنون واحد في مستشفى الأمراض العقلية، في الوقت الذي يوجد فيه أكثر من ثلاثين مليون جزائري مشروع جنون واختلال عقلي. لن تتسع المستشفيات لهم لهذا تقرر تركهم لجنونهم الذي ينعكس على وجوههم بحيث يتحولون إلى مجرد "غاشي" لا أكثر ولا أقل.. فما جدوانا في هذا العالم إذا؟ لم يكن "الرشيد" قد تجاوز الثلاثين حين قتلوه. كان يقنع نفسه أنه سعيد لمجرد أنه يقوم بواجبه.. بمجرد أنه في المساء يلتقي بأهله ويلتقي بأصدقائه في مقهى الحي متسللا كسارق. هو الذي في العام الأخير لم يعد يرتدي بذلته الرسمية في الأماكن العامة. تحول إلى شخص لا رتبة له. مجرد شخص ينزل إلى عمله مسالما ويعود آخر الليل إلى أمه وإلى حبيبة كان يلتقي بها في صالة الشاي ليحكي لها عن أشياء لم يكن يقولها لغيرها. كان الحب لعنة أخرى طاردته حتى وهو يتحول من عاشق إلى مشروع ضحية...
(,...................)
كنت قد سألت السؤال نفسه على الرشيد أسبوعا قبل اغتياله. كان يومها يبدو متعبا. كان صوته ضجرا من الحياة. من اليوميات التي تحولت إلى فيلم رعب لا ينتهي.. شعرت بالتعاطف معه. لأول مرة أتكلم معه كما يتكلم شخص إلى صديقه دون فواصل ولا خطوط حمراء. قلت له أمازحه:
ـ سيبني الوطن قبره على أحلام من تبقى من الشرفاء!
نظر إلي وقال كمن يصرّح بشيء خطير:
ـ الموت لا يحتاج إلى شخصيات بعينها.. ونحن موتى جاهزون!
ـ تقصد أن الشعب استعذب دور الضحية!
نظر إلي وسألني عن عملي.. سألني عن الخوف، هل أشعر به؟ وكنت لسبب ما أشعر فعلا بالخوف من عينيه..
عندما لم نكن نجد ما نقوله عن أنفسنا نحكي عن الناس. حكى لي عن عمله. عن القتلى الذين يشاهدهم يوميا. عن الجثث التي يعثرون على بعضها مقطوعة الرأس . تبدأ عملية البحث عن الرأس المناسب للجثة! أحيانا يجدون رأسا لا يتناسب مع حجم الجثة ومع ذلك لا مناص من تركيبه وإن لم يكن الشكل مقنعا فكان الأمر حتميا بحيث لا يمكنهم أن يأخذوا جثة بلا رأس، مثلما لا يمكن أخذ رأس بلا جثة!
كنت أتخيل ارتباك الرجال الذين أمام الجثث الكثيرة مقطوعة الرؤوس لا يعرفون ماذا عليهم فعله بها؟ وكيف يجب التصرف في وقت قصير. قال لي أحد الضباط الذين أُعفوا من الخدمة إثر تعرضهم لانهيار عصبي أنه كان يضطر إلى وضع الرؤوس مصفوفة داخل شاحنة عسكرية بينما توضع الجثث في شاحنة أخرى لتنقل كلها إلى المستشفيات حيث يقوم الأطباء المختصون بخياطة الرؤوس إلى الجثث.. قال لي بمرارة أستطيع أن أفهم حدتها:
ـ كان الطبيب مضطرا إلى إعادة الرؤوس للجثث الكثيرة. لم يكن يعنيه أن يوصل رأسا إلى صاحب الجثة. كان يخطئ في كثير من المرات، فيلصق رأس شخص آخر على جثة مختلفة البنية، فيصير شكل الشخص الميت غريبا.. حتى نحن وإن لم نكن نعرف هوية الميت نلاحظ مباشرة غرابة شكله برأس نعي جيدا أنها لم تكن له! فلا يكترث الطبيب لأن مهمته تنحصر في خياطة رأس إلى جثة! ثم ذات مرة، اكتشفنا أن الخطأ صار فادحا حين تم إضافة رأس امرأة إلى جثة رجل. رجل لم يعثر أحد على رأسه بينما المرأة لم يعثر أحد على جثتها، فاضطر الطبيب إلى خياطة رأس المرأة إلى جثة الرجل الذي لم يأت أحد للمطالبة بكليهما، فاضطرت إدارة المستشفى إلى دفنهما في مقبرة قريبة من المستشفى بعبارة: جثة شخصين مختلفين لم يتم التعرف على رأس المرأة ولا على جثة الرجل!
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى