منال // للكاتب //يوسف جوهر
صفحة 1 من اصل 1
منال // للكاتب //يوسف جوهر
منال
بقلم : يوسف جوهر
قصة قصيرة
اني نشأت يتيما لا أعرف لي أبا إلا أخي, واني لأري نفسي وأنا أمشي إلي جواره طفلا تنتهي قامتي عند مرفقه وينقر علي رأسي بأنامل يسكنها الحنان.. ولم يذهب من أذني أبدا صوته العطوف وهو يخاطبني في كل أمر وكأني مثله رجل كبير, وفي تلك الأيام لم نكن نستقر في مكان..
وكان عمله يقتضيه الانتقال من قرية إلي قرية.. لكي يصلح, ويشرف علي صيانة ماكينات الري.
ومن أجل ذلك كانوا يسمونه الباشمهندس, وقد عرفت فيما بعد أنه لم يكن يحمل شهادة في الهندسة, ولكن كان مع ذلك خبيرا بحرفته خبرة ذائعة تدعو أصحاب الماكينات المعطلة إلي انتظاره.
كما ينتظر أهل المريض طبيبهم في لهفة وترقب.
وكان ذلك يروقه.. ويهمس لي كلما نجح في اصلاح عطب, وفي صوته زهو: انظر إلي هذه الحقول الخضراء.. اني من أسباب خضرتها.. لولاي لجفت وقتلها الظمأ.
وذات مساء قال لي أخي: سنبقي في هذه القرية مالك الأرض يضره توقف الماء.. وقد اتفقت معه علي مرتب.. حقا ان أرباحي الآن أكثر.. ولكن تنقلاتي تعطل تعليمك وينبغي لك منذ الآن ان تواظب علي دراستك.
وقبل تعيين أخي كان يدير وابور الري اسطي اسمه عباس.. وقد مضي عباس في خدمة المالك سنين لم يألف فيها ان يكون له رئيس ولذلك لم يبد عليه أنه سعيد بمقدم أخي..
وزاده غضاضة اننا أعطينا بيتا من البيوت المخصصة لكبار الموظفين, وقد علق علي ذلك بقوله: الناس مقامات ياباشمهندس, وهو يخفي تحت الابتسام مرارة التهكم.
وبعد أيام تعطلت الماكينة الكبيرة ووقف عباس يراقب أخي وهو يحاول اصلاحها.. وعلي سيماه خوف التلميذ بين يدي معلمه.
ولكن المعلم مني هذه المرة بالاخفاق..
ومضي النهار وهو عاجز عن أن يصنع شيئا.. وخشوع عباس أخذت تطفو علي سطحه.. الشماتة.
وقال أخيرا: أنا ذاهب لأنام تحت التوتة في الفضاء.. ايقظني إذا دارت هذه المخروبة.
ولكنه تننوقف عند الباب واستدار وأضاف: ليت صاحب الأرض لايعلم حتي لايقول جبتك ياعبدالمعين.. واختفي قبل ان يكمل المثل ولو بقي لرأي أخي والاصرار يخالط العرق علي جبينه.
وقبيل الفجر أثمر الاصرار ثمرته..
ودارت المخروبة. وفي الطريق قال لي أخي ويده المتعبة تستقر علي رأسي كدأبه: الماكينة مظلومة يابني.. عباس عطلها عمدا لكي يثبت عجزي, ولكن الله وفقني وعرفت علة الخلل.
واندفعت أقول له وقد اخذني الغضب من هذه الحادثة لابد ان تفضحه أمام المالك ولكنه ضحك وقال بصوت يندفع فيه الاعياء بهدوء:لاياهاني.. سأعالج الأمر بالحب لأن الحب يغلب..
لم أفهم قصده.. ولكني فهمت فيما بعد.
في الاسبوع نفسه مر صاحب الأرض وسأل أخي عن خلل الماكينة, فأجابه أنه ماكان ليهتدي إلي سببه لولا ان عاونه عباس علي أمره.. وقبل ان ينصرف الباشا قال له أخي: ياسيدي ان لي رجاء.. البيت الذي خصصتني به بجوار الموظفين الكبار أكرمتني به ولم تكرمني.. جيراني ليسوا من طبعي, فهم ناس متعلمون يتكلمون في أمور لا أفهمها..
أنا في السياسة بجم وفي الفلسفة مثل هذا الحمار الذي يجر هناك.
أنا بينهم كالأطرش في الزفة.. مهندس نعم, ولكن مهندس بنور الله... لم أذهب إلي كلية.. ولم تكتحها عيناي باسمي في شهادة.. فارحمني ياسيدي من البيت الفقر, وانقلني إلي المسكن الخالي الملاصق لمسكن الاسرة.. عباس رجل يفهمني وأفهمه.. يأكل مثلي علي الطبلية ولايستنكف ان يتمني بوجهه علي مجري الماء الاسمر ويلعق منه.. ويعود مثلي آخر النهار وعلي بدنه العفريتة الزرقاء إلي البيت وعلي وجهه الشحم والزيت والتعب.. طريقنا واحد فكيف لانسكن جنبا إلي جنب؟ وقال المالك: أنت مش وش نعمة.. ولكن لك ماتريد.
وقبل شهر فهمت ما يقصده أخي من ان الحب يغلب.. ان عباس انقلب من عدو إلي ولي حميم.ولم يكن يصدر في طبعه عن دهاء وحذر, ولم يكن همه منصرفا إلي اتقاء اذي عباس, ولكنه كان يهفو لي أن يكسبه صديقا.. اكتساب الاصدقاء وتحصيل الحب كان هوايته ولذلك لم يكن يعنيه ان يندم عباس علي اساءته ويطلب غفرانه.. وكان أجمل من ذلك عنده ان يبادله الابتسامه, ويتأبط ذراعه ويقتطع من رغيفه لقمه يأكلها بشهية.
ولست أدري كيف صارت اسرة عباس اسرتنا., ولامتي أصبح خبزهم خبزنا.. كل ما اذكره ان ذلك حدث من غير عمد وبلا كلفة.
وفي أيام كثيرة كنت استيقظ في الصباح لأجد نفسي نائما عند أفرنجية.
وأفرنجية كانت زوجة عباس.وقد سميت كذلك لأنها ولدت شقراء.. شعرها فاتح وعيناها زرقاوان لاتستطيعان مواجهة ضوء النهار من وراء أهداب في لون قش القمح.
وعندما رأيتها أول مرة لم أكن قد قابلت من قبل عدوا للشمس.. وأصابني من لون بشرتها شعور, وأنا اصافحها بأني أضع يدي في شيء من الدقيق, والنوم عند أفرنجية كان لذيذا.. فقد كانت لها ابنة في مثل عمري, كانت منال أحسن حظا من أمها, ورثت منها حسنها ولونها ولم ترث عدواتها للشمس.
وكانت منال شيئا كالدمية..
دقيقة الصنع.. النظر إليها يذهب بالملل ويضع ضحكات صامتة قريرة داخل النفس.
وفي ليالي الشتاء الباردة, في تلك القرية السحيقة من قري الدقهلية كانت أفرنجية تفرش لنا السجادة فوق الفرن بعد ان يذهب دخان الوقود..
وكنت أقبع إلي جوار منال ريثما يفرغ أخي من مشاكل ماكينات الري.. ولكن اخي لم يعد ليجدني مستيقظا أبدا, فقد أتقنت التناوم والغطيط.. ولم يكن النظر إلي وجه منال الملائكي شيئا يمكن التفريط فيه.
وبعد أن يذهب أخي بدوني أطلق سراح مقلتي الحبيستين تحت جفوني وانظر من فجوة اللحاف إلي عباس وهو جالس إلي الطبلية يمضغ طعامه بصوت مسموع.
وكان يعيني علي احتمال هذا الصوت ان افرنجية كانت تغني وهي تروح وتجيء بصوت أحمر لو ان للأصوات لونا.. وكانت كلمات الحب تنساب حلوة من بين شفتيها وكنت أري ظللها وكأنه يرتعش كلما طرحه المصباح علي الحائط.. وأرد بصري إلي محياها وألمحها ترنو إلي عباس وهي تغني.. ولكن غناءها لم يكن يزيده كما يزيدني صحوا.. ويغمض عينيه فجأة وينبعث من أنفه صفير قبيح وتكف أفرنجية عن الغناء..
ولكن الرياح كانت تذهب بالرماد في الصباح.. وكان غناء افرنجية يصل إلي أذني وأنا في قمة شجرة التوت القريبة من البيت أهز أغصانها ومنال راكعة تحتها تجمع ثمرها الحلو وترفع نحوي وجهها الضاحك, تطلب المزيد.
وتمضي السنوات وغناء أفرنجية لاينقطع.. ولكن الصوت الذي تخيلته دائما أحمر صار أبيض في مشاعري صوت به برص.. به عداوة للشمس ونفور من النور.
وانقطع الصوت فجأة..
كان ذلك في آخر عام من أعوام دراستي الثانوية التي واصلتها في مدرسة المنصورة وكنت أعود إلي القرية علي دراجتي آخر النهار, وفي ذلك المساء وصلت إلي البيت وأنا واثق ان غناء أفرنجية وشيك الوصول إلي أذني ولكن الصمت الذي لم أتعوده اشعرني في الحال بغيابها.
وفي مثل تلك الساعة كنت أجد أخي في البيت ولكن الباب كان مغلقا ولم يكن في البيتين ضوء ينبعث من الداخل وذهبت إلي الماكينة.. ورأيت وجه أخي مكفهرا.. وقال لي وصوته شاحب: إني أعمل بدلا من عباس لأنه غائب..
وسألت أخي: هل تطول غيبة عباس؟
وصمت طويلا ثم ابتدرني: كبرت.. إذا أئتمنتك علي سر.. هل تحتمله أم تفشيه؟ عباس ذهب يبحث عن زوجته.. فقد هربت مع عشيق..من كان يتصور ان هذه الزوجة الطيبة....
وهممت أن أصرخ به: أنا اتصوره.. القصة فيها فصول مودعة في ذاكرتي منذ كنت صبيا.. وعباس يحمل بعض الذنب..
ولكني بدلا من ذلك وجمت..
وسكت اكتفي بالتفكير في أمر منال.. ماذا يحدث لها عندما تعرف؟
وكانت منال بعيدة عن القرية في تلك الأيام.. فانها كانت طالبة في الفنون الطرزية في القسم الداخلي.. ولم تكن تحضر من المنصورة إلا في الاجازات الكبيرة.
وتنبهت علي صوت أخي يقول:
مسكينة منال.. يجب ان نتعاون علي حجب الحقيقة عنها.
وهكذا انبئت عندما عادت إلي البيت أن أمها سافرت إلي أقارب لها في المنوفية..
ولم تكره منال غياب أمها.. فان كلمات الحب التي كانت تغنيها أمها كانت لاتزال عالقة بالاوراق الخضراء التي تكسو أغصان شجرة التوت وكانت تشتهي ان تغنيها بصوتها.. في اذني.
وانتهت العطلة.. وعادت منال إلي المدرسة قبل عودة أمها من رحلتها, ولكني لم اقترب من مدرسة الفنون الطرزية, كما كنت أفعل من قبل, ولم أظهر لمنال التي تعودت ان تراني من نافذة بمبني النوم في بعض الامسيات, ولم اتلكأ حول السور لكي أبادلها نظرة, وهي تقف مع زميلاتها في الفسحة بين الدروس.
وهكذا كنت بعيدا عنها عندما جاءها أبوها بذلك النبأ الملفق عن موت أمها.. وكان هذا الموت آخر ما يلجأ إليه لتعليل غيابها بعد أن أعيته الحيل في العثور عليها وذهب بحثه سدي.
ولكي يحمي عباس تلفيقه ترك عمله عند صاحب الارض إلي عمل آخر في عزبة نائية حريصا علي ألا تعود منال إلي القرية بعد انتهاء العام الدراسي وأن تظل بمنأي عن الحوادث.
وظننت أن ذلك سيغنيني علي الهروب من الحب العذب.. ولكني فوجئت برسالة منها تبوح لي فيها بأن هذا البعد بيننا قضي علي آخر ما كان يمسكها بالحياة, وانها لاتدري لماذا تعيش بعد أن صار يعوزها حتي البكاء علي صدري.
وكان توسلها الكبير المبلل بالدموع أشبه بالنداء الآخير الذي ترسله الباخرة قبل ان تغرق ومع ذلك صممت اذني وقلت لنفسي في حزم:
نعم.. أنا عبدالتقاليد.. ودماء الريف الغبية تجري في عروقي.. لن أتزوج.. أمها هربت
وبدلا من أن أذهب إلي منال, شددت رحالي إلي القاهرة بعد أن قبلت أوراقي في كلية الهندسة.
ومضي عامان..
ولكنهما لم يذهبا بمنال من رأسي..
حاولت أن أنساها بالدراسة الشاقة..
وأصبحت في المقدمة.. ولكنها بقيت في رأسي..
وقال لي الخزلان انسها وامحها من ذاكرتك إلي الأبد.
وخضت من أجل ذلك صمودا فائقا.
ولكن الحريق الذي حسبته انتهي يشتعل فجأة حين وصلتني برقية من أخي يقول فيها: تزوجت منال..
وكتبت إليه: لاشك انك جننت..
فهل تتزوج وأنت في الخمسين فتاة في نصف عمرك؟ وهل نسيت؟
ولكني مزقت الرسالة قبل ان أكملها, وبدلا من ان ابعث بها استقبلت العروس في بيتي.. جاء بها أخي إلي القاهرة في رحلة شهر العسل.
وفي الاسبوع نفسه وصلت إلي أخي برقية من القرية تفيد ان ماكينة الري تعطلت والمحصول في نقص خطير.
وقال أخي في مرح: سأصلحها في غمضة عين وأكون هنا في الصباح.
وتركني لمنال.. لا أدري كيف صارحتها في اللحظة التالية وأنا أصرح: انك سر أمك.. هل تحسبينها ماتت؟انها هربت.
وثبت منال من الشرفة من ارتفاع سبعة ادوار.. هل وثبت لأنها كرهت الحياة؟ أم حاجز الشرفة كان قصير وتعثرت فيه قضاء وقدرا..
لست أدري, الذي أدريه انني قاتل في الحالتين عندما لطمت منال بالحقيقة.
تمت
بقلم : يوسف جوهر
قصة قصيرة
اني نشأت يتيما لا أعرف لي أبا إلا أخي, واني لأري نفسي وأنا أمشي إلي جواره طفلا تنتهي قامتي عند مرفقه وينقر علي رأسي بأنامل يسكنها الحنان.. ولم يذهب من أذني أبدا صوته العطوف وهو يخاطبني في كل أمر وكأني مثله رجل كبير, وفي تلك الأيام لم نكن نستقر في مكان..
وكان عمله يقتضيه الانتقال من قرية إلي قرية.. لكي يصلح, ويشرف علي صيانة ماكينات الري.
ومن أجل ذلك كانوا يسمونه الباشمهندس, وقد عرفت فيما بعد أنه لم يكن يحمل شهادة في الهندسة, ولكن كان مع ذلك خبيرا بحرفته خبرة ذائعة تدعو أصحاب الماكينات المعطلة إلي انتظاره.
كما ينتظر أهل المريض طبيبهم في لهفة وترقب.
وكان ذلك يروقه.. ويهمس لي كلما نجح في اصلاح عطب, وفي صوته زهو: انظر إلي هذه الحقول الخضراء.. اني من أسباب خضرتها.. لولاي لجفت وقتلها الظمأ.
وذات مساء قال لي أخي: سنبقي في هذه القرية مالك الأرض يضره توقف الماء.. وقد اتفقت معه علي مرتب.. حقا ان أرباحي الآن أكثر.. ولكن تنقلاتي تعطل تعليمك وينبغي لك منذ الآن ان تواظب علي دراستك.
وقبل تعيين أخي كان يدير وابور الري اسطي اسمه عباس.. وقد مضي عباس في خدمة المالك سنين لم يألف فيها ان يكون له رئيس ولذلك لم يبد عليه أنه سعيد بمقدم أخي..
وزاده غضاضة اننا أعطينا بيتا من البيوت المخصصة لكبار الموظفين, وقد علق علي ذلك بقوله: الناس مقامات ياباشمهندس, وهو يخفي تحت الابتسام مرارة التهكم.
وبعد أيام تعطلت الماكينة الكبيرة ووقف عباس يراقب أخي وهو يحاول اصلاحها.. وعلي سيماه خوف التلميذ بين يدي معلمه.
ولكن المعلم مني هذه المرة بالاخفاق..
ومضي النهار وهو عاجز عن أن يصنع شيئا.. وخشوع عباس أخذت تطفو علي سطحه.. الشماتة.
وقال أخيرا: أنا ذاهب لأنام تحت التوتة في الفضاء.. ايقظني إذا دارت هذه المخروبة.
ولكنه تننوقف عند الباب واستدار وأضاف: ليت صاحب الأرض لايعلم حتي لايقول جبتك ياعبدالمعين.. واختفي قبل ان يكمل المثل ولو بقي لرأي أخي والاصرار يخالط العرق علي جبينه.
وقبيل الفجر أثمر الاصرار ثمرته..
ودارت المخروبة. وفي الطريق قال لي أخي ويده المتعبة تستقر علي رأسي كدأبه: الماكينة مظلومة يابني.. عباس عطلها عمدا لكي يثبت عجزي, ولكن الله وفقني وعرفت علة الخلل.
واندفعت أقول له وقد اخذني الغضب من هذه الحادثة لابد ان تفضحه أمام المالك ولكنه ضحك وقال بصوت يندفع فيه الاعياء بهدوء:لاياهاني.. سأعالج الأمر بالحب لأن الحب يغلب..
لم أفهم قصده.. ولكني فهمت فيما بعد.
في الاسبوع نفسه مر صاحب الأرض وسأل أخي عن خلل الماكينة, فأجابه أنه ماكان ليهتدي إلي سببه لولا ان عاونه عباس علي أمره.. وقبل ان ينصرف الباشا قال له أخي: ياسيدي ان لي رجاء.. البيت الذي خصصتني به بجوار الموظفين الكبار أكرمتني به ولم تكرمني.. جيراني ليسوا من طبعي, فهم ناس متعلمون يتكلمون في أمور لا أفهمها..
أنا في السياسة بجم وفي الفلسفة مثل هذا الحمار الذي يجر هناك.
أنا بينهم كالأطرش في الزفة.. مهندس نعم, ولكن مهندس بنور الله... لم أذهب إلي كلية.. ولم تكتحها عيناي باسمي في شهادة.. فارحمني ياسيدي من البيت الفقر, وانقلني إلي المسكن الخالي الملاصق لمسكن الاسرة.. عباس رجل يفهمني وأفهمه.. يأكل مثلي علي الطبلية ولايستنكف ان يتمني بوجهه علي مجري الماء الاسمر ويلعق منه.. ويعود مثلي آخر النهار وعلي بدنه العفريتة الزرقاء إلي البيت وعلي وجهه الشحم والزيت والتعب.. طريقنا واحد فكيف لانسكن جنبا إلي جنب؟ وقال المالك: أنت مش وش نعمة.. ولكن لك ماتريد.
وقبل شهر فهمت ما يقصده أخي من ان الحب يغلب.. ان عباس انقلب من عدو إلي ولي حميم.ولم يكن يصدر في طبعه عن دهاء وحذر, ولم يكن همه منصرفا إلي اتقاء اذي عباس, ولكنه كان يهفو لي أن يكسبه صديقا.. اكتساب الاصدقاء وتحصيل الحب كان هوايته ولذلك لم يكن يعنيه ان يندم عباس علي اساءته ويطلب غفرانه.. وكان أجمل من ذلك عنده ان يبادله الابتسامه, ويتأبط ذراعه ويقتطع من رغيفه لقمه يأكلها بشهية.
ولست أدري كيف صارت اسرة عباس اسرتنا., ولامتي أصبح خبزهم خبزنا.. كل ما اذكره ان ذلك حدث من غير عمد وبلا كلفة.
وفي أيام كثيرة كنت استيقظ في الصباح لأجد نفسي نائما عند أفرنجية.
وأفرنجية كانت زوجة عباس.وقد سميت كذلك لأنها ولدت شقراء.. شعرها فاتح وعيناها زرقاوان لاتستطيعان مواجهة ضوء النهار من وراء أهداب في لون قش القمح.
وعندما رأيتها أول مرة لم أكن قد قابلت من قبل عدوا للشمس.. وأصابني من لون بشرتها شعور, وأنا اصافحها بأني أضع يدي في شيء من الدقيق, والنوم عند أفرنجية كان لذيذا.. فقد كانت لها ابنة في مثل عمري, كانت منال أحسن حظا من أمها, ورثت منها حسنها ولونها ولم ترث عدواتها للشمس.
وكانت منال شيئا كالدمية..
دقيقة الصنع.. النظر إليها يذهب بالملل ويضع ضحكات صامتة قريرة داخل النفس.
وفي ليالي الشتاء الباردة, في تلك القرية السحيقة من قري الدقهلية كانت أفرنجية تفرش لنا السجادة فوق الفرن بعد ان يذهب دخان الوقود..
وكنت أقبع إلي جوار منال ريثما يفرغ أخي من مشاكل ماكينات الري.. ولكن اخي لم يعد ليجدني مستيقظا أبدا, فقد أتقنت التناوم والغطيط.. ولم يكن النظر إلي وجه منال الملائكي شيئا يمكن التفريط فيه.
وبعد أن يذهب أخي بدوني أطلق سراح مقلتي الحبيستين تحت جفوني وانظر من فجوة اللحاف إلي عباس وهو جالس إلي الطبلية يمضغ طعامه بصوت مسموع.
وكان يعيني علي احتمال هذا الصوت ان افرنجية كانت تغني وهي تروح وتجيء بصوت أحمر لو ان للأصوات لونا.. وكانت كلمات الحب تنساب حلوة من بين شفتيها وكنت أري ظللها وكأنه يرتعش كلما طرحه المصباح علي الحائط.. وأرد بصري إلي محياها وألمحها ترنو إلي عباس وهي تغني.. ولكن غناءها لم يكن يزيده كما يزيدني صحوا.. ويغمض عينيه فجأة وينبعث من أنفه صفير قبيح وتكف أفرنجية عن الغناء..
ولكن الرياح كانت تذهب بالرماد في الصباح.. وكان غناء افرنجية يصل إلي أذني وأنا في قمة شجرة التوت القريبة من البيت أهز أغصانها ومنال راكعة تحتها تجمع ثمرها الحلو وترفع نحوي وجهها الضاحك, تطلب المزيد.
وتمضي السنوات وغناء أفرنجية لاينقطع.. ولكن الصوت الذي تخيلته دائما أحمر صار أبيض في مشاعري صوت به برص.. به عداوة للشمس ونفور من النور.
وانقطع الصوت فجأة..
كان ذلك في آخر عام من أعوام دراستي الثانوية التي واصلتها في مدرسة المنصورة وكنت أعود إلي القرية علي دراجتي آخر النهار, وفي ذلك المساء وصلت إلي البيت وأنا واثق ان غناء أفرنجية وشيك الوصول إلي أذني ولكن الصمت الذي لم أتعوده اشعرني في الحال بغيابها.
وفي مثل تلك الساعة كنت أجد أخي في البيت ولكن الباب كان مغلقا ولم يكن في البيتين ضوء ينبعث من الداخل وذهبت إلي الماكينة.. ورأيت وجه أخي مكفهرا.. وقال لي وصوته شاحب: إني أعمل بدلا من عباس لأنه غائب..
وسألت أخي: هل تطول غيبة عباس؟
وصمت طويلا ثم ابتدرني: كبرت.. إذا أئتمنتك علي سر.. هل تحتمله أم تفشيه؟ عباس ذهب يبحث عن زوجته.. فقد هربت مع عشيق..من كان يتصور ان هذه الزوجة الطيبة....
وهممت أن أصرخ به: أنا اتصوره.. القصة فيها فصول مودعة في ذاكرتي منذ كنت صبيا.. وعباس يحمل بعض الذنب..
ولكني بدلا من ذلك وجمت..
وسكت اكتفي بالتفكير في أمر منال.. ماذا يحدث لها عندما تعرف؟
وكانت منال بعيدة عن القرية في تلك الأيام.. فانها كانت طالبة في الفنون الطرزية في القسم الداخلي.. ولم تكن تحضر من المنصورة إلا في الاجازات الكبيرة.
وتنبهت علي صوت أخي يقول:
مسكينة منال.. يجب ان نتعاون علي حجب الحقيقة عنها.
وهكذا انبئت عندما عادت إلي البيت أن أمها سافرت إلي أقارب لها في المنوفية..
ولم تكره منال غياب أمها.. فان كلمات الحب التي كانت تغنيها أمها كانت لاتزال عالقة بالاوراق الخضراء التي تكسو أغصان شجرة التوت وكانت تشتهي ان تغنيها بصوتها.. في اذني.
وانتهت العطلة.. وعادت منال إلي المدرسة قبل عودة أمها من رحلتها, ولكني لم اقترب من مدرسة الفنون الطرزية, كما كنت أفعل من قبل, ولم أظهر لمنال التي تعودت ان تراني من نافذة بمبني النوم في بعض الامسيات, ولم اتلكأ حول السور لكي أبادلها نظرة, وهي تقف مع زميلاتها في الفسحة بين الدروس.
وهكذا كنت بعيدا عنها عندما جاءها أبوها بذلك النبأ الملفق عن موت أمها.. وكان هذا الموت آخر ما يلجأ إليه لتعليل غيابها بعد أن أعيته الحيل في العثور عليها وذهب بحثه سدي.
ولكي يحمي عباس تلفيقه ترك عمله عند صاحب الارض إلي عمل آخر في عزبة نائية حريصا علي ألا تعود منال إلي القرية بعد انتهاء العام الدراسي وأن تظل بمنأي عن الحوادث.
وظننت أن ذلك سيغنيني علي الهروب من الحب العذب.. ولكني فوجئت برسالة منها تبوح لي فيها بأن هذا البعد بيننا قضي علي آخر ما كان يمسكها بالحياة, وانها لاتدري لماذا تعيش بعد أن صار يعوزها حتي البكاء علي صدري.
وكان توسلها الكبير المبلل بالدموع أشبه بالنداء الآخير الذي ترسله الباخرة قبل ان تغرق ومع ذلك صممت اذني وقلت لنفسي في حزم:
نعم.. أنا عبدالتقاليد.. ودماء الريف الغبية تجري في عروقي.. لن أتزوج.. أمها هربت
وبدلا من أن أذهب إلي منال, شددت رحالي إلي القاهرة بعد أن قبلت أوراقي في كلية الهندسة.
ومضي عامان..
ولكنهما لم يذهبا بمنال من رأسي..
حاولت أن أنساها بالدراسة الشاقة..
وأصبحت في المقدمة.. ولكنها بقيت في رأسي..
وقال لي الخزلان انسها وامحها من ذاكرتك إلي الأبد.
وخضت من أجل ذلك صمودا فائقا.
ولكن الحريق الذي حسبته انتهي يشتعل فجأة حين وصلتني برقية من أخي يقول فيها: تزوجت منال..
وكتبت إليه: لاشك انك جننت..
فهل تتزوج وأنت في الخمسين فتاة في نصف عمرك؟ وهل نسيت؟
ولكني مزقت الرسالة قبل ان أكملها, وبدلا من ان ابعث بها استقبلت العروس في بيتي.. جاء بها أخي إلي القاهرة في رحلة شهر العسل.
وفي الاسبوع نفسه وصلت إلي أخي برقية من القرية تفيد ان ماكينة الري تعطلت والمحصول في نقص خطير.
وقال أخي في مرح: سأصلحها في غمضة عين وأكون هنا في الصباح.
وتركني لمنال.. لا أدري كيف صارحتها في اللحظة التالية وأنا أصرح: انك سر أمك.. هل تحسبينها ماتت؟انها هربت.
وثبت منال من الشرفة من ارتفاع سبعة ادوار.. هل وثبت لأنها كرهت الحياة؟ أم حاجز الشرفة كان قصير وتعثرت فيه قضاء وقدرا..
لست أدري, الذي أدريه انني قاتل في الحالتين عندما لطمت منال بالحقيقة.
تمت
نسمة- Admin
- المساهمات : 565
تاريخ التسجيل : 01/12/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى